الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولو قال : مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان ، فمذهب عائشة رضي الله عنها وعدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطاء [ ص: 457 ] والقياس أن عليه كفارة يمين ، وقال : من حنث في المشي إلى بيت الله ، ففيه قولان : أحدهما قول عطاء : كفارة يمين ، ومذهبه أن أعمال البر لا يكون إلا ما فرض الله أو تبررا يراد به الله عز وجل ( قال الشافعي ) والتبرر أن يقول : لله علي إن شفاني أن أحج نذرا ، فأما إن لم أقضك حقك فعلي المشي إلى بيت الله ، فهذا من معاني الأيمان لا معاني النذور ( قال المزني ) - رحمه الله - : قد قطع بأنه قول عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقياس ، وقد قال في غير هذا الموضع : لو قال لله علي نذر حج إن شاء فلان ، فشاء ، لم يكن عليه شيء ، إنما النذر ما أريد به الله عز وجل ليس على معاني المعلق والشائي غير الناذر .

قال الماوردي : اعلم أن النذر ضربان :

أحدهما : نذر جزاء وتبرر ، وهو ما أوجبه على نفسه على ما أولاه الله من نعمة أو دفعه عنه من نقمة ، كقوله : إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا ، فلله علي أن أتصدق بمالي فيلزمه الوفاء بنذره ، ولا يجوز له العدول عنه إلى غيره ، على ما سنذكره في كتابه .

والضرب الثاني : نذر نفي وإثبات خرج مخرج اليمين ، فالنفي ما التزم به نفي فعل ، كقوله : إن دخلت الدار فمالي صدقة ، ليلزم بنذره دخول الدار ، والإثبات ما التزم به إثبات فعل ، كقوله : إن لم أدخل الدار فمالي صدقة ، ليلتزم بنذره دخول الدار ، والإثبات ما التزم به النفي كقوله : إن دخلت الدار فمالي صدقة ، ليلتزم بنذره أن لا يدخل الدار إذا خالف عقد نذره وحنث فيما أوجبه على نفسه ، فقد اختلف فيه أهل العلم على ستة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب إبراهيم النخعي ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، أنه لا شيء عليه من صدقة ولا كفارة ؛ لأنه وصف ماله بما لا يصير موصوفا به ، فصار كقوله : إن دخلت الدار ، فمالي حرام .

والثاني : وهو مذهب عثمان البتي أنه يلزم الوفاء بنذره ، والصدقة بجميع ماله ؛ لأنه أحد نوعي النذر كالجزاء والتبرر .

والثالث : وهو مذهب ربيعة بن عبد الرحمن ، أنه يلزمه أن يتصدق من ماله بقدر زكاته ؛ لأن الصدقة المشروعة هي الزكاة .

والرابع : وهو مذهب مالك يلزمه أن يتصدق بثلث ماله ؛ لأن أبا لبابة الأنصاري قال : يا رسول الله ، أنخلع عن مالي ؟ فقال : الثلث يجزئك .

[ ص: 458 ] والخامس : وهو مذهب أبي حنيفة يلزمه أن يتصدق بجميع الأموال المزكاة ، ولا يلزمه أن يتصدق بما ليس بمزكى .

والسادس : وهو مذهب الشافعي ؛ أنه مخير بين أن يتصدق بجميع ماله وبين أن يكفر كفارة يمين وهو في الصحابة قول عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وفي التابعين قول الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وفي الفقهاء قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، وأبي ثور ، واستدل أبو حنيفة ومن تابعه في الجملة ولم يوجب فيه كفارة يمين بقول الله تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون [ التوبة : 75 ، 76 ] ، فتوعده على ترك الوفاء بنذره والوعيد يتوجه إلى ترك الواجبات ، وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر نذرا يطيقه فليف به فكان ذلك على عمومه ؛ ولأنه علق الصدقة بشرط فوجب أن يلزم بوجود الشرط كالجزاء بالتبرر ؛ ولأن كل حق لزم بنذر الجزاء والتبرر لزمه بنفي النذر والإثبات كالعتاق والطلاق ، ودليلنا عموم قوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين إلى قوله : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [ المائدة : 89 ] ، فكان محمولا على كل يمين .

وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم : كفارة النذر كفارة اليمين وهذا نص .

وروى عبد الله بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر ولم يسم فعليه كفارة يمين ، ومن نذر ما لا يطيق فعليه كفارة يمين .

وروت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف بالهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة اليمين وهذه الأخبار كلها نص ، ولأنه بانتشاره عن سبعة من الصحابة لم يظهر خلافهم إجماع لا يجوز خلافه .

روى عمر بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فقال أحدهما للآخر : قسمه ، فقال له : إن عدت بذكر القسمة لا أكلمك أبدا ، وكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الكعبة لغنية عن ما لك كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يمين عليك في معصية الرب ، ولا في قطيعة الرحم ، ولا فيما ليس لك .

وروى بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع قال : قالت مولاتي : لأفرقن بينك وبين امرأتك ، وكل مالي في رتاج الكعبة ، وأنا يوم يهودية ويوم نصرانية ويوم مجوسية [ ص: 459 ] إن لم أفرق بينك وبين امرأتك ، قال : فأتيت ابن عمر فأخبرته ، فجاء حتى انتهى إلى الباب ، فقال هاهنا : هاروت وماروت ، فقالت يا طيب بن الطيب ، ادخل أعوذ بالله من غضبك ، قال : أتريدين أن تفرقي بين المرء وزوجه ، قالت : إني جعلت كل مالي في رتاج الكعبة ، وقلت : إنها يوم يهودية ، ويوم نصرانية ، ويوم مجوسية ، قال : تكفرين يمينك وتجمعين بين فتاك وفتاتك .

وروي أنها سألت ابن عباس وأبا هريرة وعائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم ، فكلهم قال لها : كفري عن يمينك وخلي بينهما ففعلته .

وروى خلاس بن عمر أن ابن عباس سئل عن امرأة أهدت ثوبها إن مسته ، فقال : لتكفر عن يمينها ، ولتلبس ثوبها ، وإذا كان هذا مرويا عن هذا العدد من الصحابة ، ولم يظهر خلافهم فهو إجماع قاطع ، فاعترض على هذا الإجماع ما حكاه أصحاب أبي حنيفة عن أبي جعفر محمد بن عبد الله الهندواني أن القول بالوفاء قول العبادلة من الصحابة .

قيل : لهم هذه دعوى يدفعها ما رويناه عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأن أحدا من نقلة السنن والآثار لم يرو خلافه .

ويدل عليه من القياس أنه حق لله تعالى يتعلق بفعله ويجب بحنثه كفارة ، فوجب أن يسقط بكفارة يمين كسائر الأيمان ، ولأن ما وجب عليه في حنثه بالله جاز أن يسقط به حكم حنثه في النذر كقوله : إن فعلت كذا وكذا فلله علي نذر .

ولأنه لو جرد نذره عن يمين لزمه الوفاء ولو جرد يمينه عن نذر لزمته الكفارة ، وهذا النذر مشترك بين الأيمان المحضة والنذور المحضة ، فوجب أن يكون الحنث فيه مشتركا بين حنث الأيمان وحنث النذور .

فأما الجواب عن الآية فهي واردة في نذر جزاء وتبرر عقده على نفسه فلم يف به ، وكذلك الجواب عن الخبرين .

وأما الجواب عن قياسهم على نذر الجزاء والتبرر ، فمن وجهين :

أحدهما : أن النذر لا لمحض معاوضة قال أبو إسحاق المروزي ، فيجعل النذر لازما في الجزاء ولا يجعله لازما في التبرر المبتدأ .

والجواب الثاني : أن مقصود النذر طاعة الله ومقصود هذا التزام فعل أو الامتناع من فعل فلاختلافهما في المقصود ما اختلفا في الحكم ، وهذا قول من جعل نذر التبرر لازما كما كان نذر الجزاء لازما ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة .

وأما الجواب عن تعليق هذا النذر بالعتاق والطلاق ، فهو أنه وقوع عتق وطلاق بصفة لا يفتقر إلى استئناف عتق وطلاق - مخالف حكم تعليقه بالصدقة التي تفتقر إلى [ ص: 460 ] فعله ، فإذا تقرر تخييره بين هذا النذر وبين الوفاء والكفارة ، فقد اختلف أصحابنا في الواجب عليه على وجهين :

أحدهما : أن الواجب عليه أحدهما وهما في الوجوب على سواء وله الخيار فيما شاء منهما .

والوجه الثاني : أن الواجب عليه الكفارة وله إسقاطهما بالنذر لأن حكم اليمين أغلب ، وهي بالله تعالى أغلظ ، وإن كان الوفاء بالنذر أفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية