الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولو قال : مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان ، فمذهب عائشة رضي الله عنها وعدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطاء [ ص: 457 ] والقياس أن عليه كفارة يمين ، وقال : من حنث في المشي إلى بيت الله ، ففيه قولان : أحدهما قول عطاء : كفارة يمين ، ومذهبه أن أعمال البر لا يكون إلا ما فرض الله أو تبررا يراد به الله عز وجل ( قال الشافعي ) والتبرر أن يقول : لله علي إن شفاني أن أحج نذرا ، فأما إن لم أقضك حقك فعلي المشي إلى بيت الله ، فهذا من معاني الأيمان لا معاني النذور ( قال المزني ) - رحمه الله - : قد قطع بأنه قول عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقياس ، وقد قال في غير هذا الموضع : لو قال لله علي نذر حج إن شاء فلان ، فشاء ، لم يكن عليه شيء ، إنما النذر ما أريد به الله عز وجل ليس على معاني المعلق والشائي غير الناذر .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن النذر ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : نذر جزاء وتبرر ، وهو ما أوجبه على نفسه على ما أولاه الله من نعمة أو دفعه عنه من نقمة ، كقوله : إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا ، فلله علي أن أتصدق بمالي فيلزمه الوفاء بنذره ، ولا يجوز له العدول عنه إلى غيره ، على ما سنذكره في كتابه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : نذر نفي وإثبات خرج مخرج اليمين ، فالنفي ما التزم به نفي فعل ، كقوله : إن دخلت الدار فمالي صدقة ، ليلزم بنذره دخول الدار ، والإثبات ما التزم به إثبات فعل ، كقوله : إن لم أدخل الدار فمالي صدقة ، ليلتزم بنذره دخول الدار ، والإثبات ما التزم به النفي كقوله : إن دخلت الدار فمالي صدقة ، ليلتزم بنذره أن لا يدخل الدار إذا خالف عقد نذره وحنث فيما أوجبه على نفسه ، فقد اختلف فيه أهل العلم على ستة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب إبراهيم النخعي ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان ، أنه لا شيء عليه من صدقة ولا كفارة ؛ لأنه وصف ماله بما لا يصير موصوفا به ، فصار كقوله : إن دخلت الدار ، فمالي حرام .

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب عثمان البتي أنه يلزم الوفاء بنذره ، والصدقة بجميع ماله ؛ لأنه أحد نوعي النذر كالجزاء والتبرر .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب ربيعة بن عبد الرحمن ، أنه يلزمه أن يتصدق من ماله بقدر زكاته ؛ لأن الصدقة المشروعة هي الزكاة .

                                                                                                                                            والرابع : وهو مذهب مالك يلزمه أن يتصدق بثلث ماله ؛ لأن أبا لبابة الأنصاري قال : يا رسول الله ، أنخلع عن مالي ؟ فقال : الثلث يجزئك .

                                                                                                                                            [ ص: 458 ] والخامس : وهو مذهب أبي حنيفة يلزمه أن يتصدق بجميع الأموال المزكاة ، ولا يلزمه أن يتصدق بما ليس بمزكى .

                                                                                                                                            والسادس : وهو مذهب الشافعي ؛ أنه مخير بين أن يتصدق بجميع ماله وبين أن يكفر كفارة يمين وهو في الصحابة قول عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وفي التابعين قول الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وفي الفقهاء قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، وأبي ثور ، واستدل أبو حنيفة ومن تابعه في الجملة ولم يوجب فيه كفارة يمين بقول الله تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون [ التوبة : 75 ، 76 ] ، فتوعده على ترك الوفاء بنذره والوعيد يتوجه إلى ترك الواجبات ، وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر نذرا يطيقه فليف به فكان ذلك على عمومه ؛ ولأنه علق الصدقة بشرط فوجب أن يلزم بوجود الشرط كالجزاء بالتبرر ؛ ولأن كل حق لزم بنذر الجزاء والتبرر لزمه بنفي النذر والإثبات كالعتاق والطلاق ، ودليلنا عموم قوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين إلى قوله : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [ المائدة : 89 ] ، فكان محمولا على كل يمين .

                                                                                                                                            وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم : كفارة النذر كفارة اليمين وهذا نص .

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر ولم يسم فعليه كفارة يمين ، ومن نذر ما لا يطيق فعليه كفارة يمين .

                                                                                                                                            وروت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف بالهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة اليمين وهذه الأخبار كلها نص ، ولأنه بانتشاره عن سبعة من الصحابة لم يظهر خلافهم إجماع لا يجوز خلافه .

                                                                                                                                            روى عمر بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فقال أحدهما للآخر : قسمه ، فقال له : إن عدت بذكر القسمة لا أكلمك أبدا ، وكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الكعبة لغنية عن ما لك كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يمين عليك في معصية الرب ، ولا في قطيعة الرحم ، ولا فيما ليس لك .

                                                                                                                                            وروى بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع قال : قالت مولاتي : لأفرقن بينك وبين امرأتك ، وكل مالي في رتاج الكعبة ، وأنا يوم يهودية ويوم نصرانية ويوم مجوسية [ ص: 459 ] إن لم أفرق بينك وبين امرأتك ، قال : فأتيت ابن عمر فأخبرته ، فجاء حتى انتهى إلى الباب ، فقال هاهنا : هاروت وماروت ، فقالت يا طيب بن الطيب ، ادخل أعوذ بالله من غضبك ، قال : أتريدين أن تفرقي بين المرء وزوجه ، قالت : إني جعلت كل مالي في رتاج الكعبة ، وقلت : إنها يوم يهودية ، ويوم نصرانية ، ويوم مجوسية ، قال : تكفرين يمينك وتجمعين بين فتاك وفتاتك .

                                                                                                                                            وروي أنها سألت ابن عباس وأبا هريرة وعائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم ، فكلهم قال لها : كفري عن يمينك وخلي بينهما ففعلته .

                                                                                                                                            وروى خلاس بن عمر أن ابن عباس سئل عن امرأة أهدت ثوبها إن مسته ، فقال : لتكفر عن يمينها ، ولتلبس ثوبها ، وإذا كان هذا مرويا عن هذا العدد من الصحابة ، ولم يظهر خلافهم فهو إجماع قاطع ، فاعترض على هذا الإجماع ما حكاه أصحاب أبي حنيفة عن أبي جعفر محمد بن عبد الله الهندواني أن القول بالوفاء قول العبادلة من الصحابة .

                                                                                                                                            قيل : لهم هذه دعوى يدفعها ما رويناه عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأن أحدا من نقلة السنن والآثار لم يرو خلافه .

                                                                                                                                            ويدل عليه من القياس أنه حق لله تعالى يتعلق بفعله ويجب بحنثه كفارة ، فوجب أن يسقط بكفارة يمين كسائر الأيمان ، ولأن ما وجب عليه في حنثه بالله جاز أن يسقط به حكم حنثه في النذر كقوله : إن فعلت كذا وكذا فلله علي نذر .

                                                                                                                                            ولأنه لو جرد نذره عن يمين لزمه الوفاء ولو جرد يمينه عن نذر لزمته الكفارة ، وهذا النذر مشترك بين الأيمان المحضة والنذور المحضة ، فوجب أن يكون الحنث فيه مشتركا بين حنث الأيمان وحنث النذور .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فهي واردة في نذر جزاء وتبرر عقده على نفسه فلم يف به ، وكذلك الجواب عن الخبرين .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على نذر الجزاء والتبرر ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النذر لا لمحض معاوضة قال أبو إسحاق المروزي ، فيجعل النذر لازما في الجزاء ولا يجعله لازما في التبرر المبتدأ .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن مقصود النذر طاعة الله ومقصود هذا التزام فعل أو الامتناع من فعل فلاختلافهما في المقصود ما اختلفا في الحكم ، وهذا قول من جعل نذر التبرر لازما كما كان نذر الجزاء لازما ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن تعليق هذا النذر بالعتاق والطلاق ، فهو أنه وقوع عتق وطلاق بصفة لا يفتقر إلى استئناف عتق وطلاق - مخالف حكم تعليقه بالصدقة التي تفتقر إلى [ ص: 460 ] فعله ، فإذا تقرر تخييره بين هذا النذر وبين الوفاء والكفارة ، فقد اختلف أصحابنا في الواجب عليه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الواجب عليه أحدهما وهما في الوجوب على سواء وله الخيار فيما شاء منهما .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الواجب عليه الكفارة وله إسقاطهما بالنذر لأن حكم اليمين أغلب ، وهي بالله تعالى أغلظ ، وإن كان الوفاء بالنذر أفضل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية