الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ القسم الخامس : المحكم والمتشابه ] .

وأما القسم الخامس وهو المحكم والمتشابه :

فأصله قول الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] . الآية .

واختلف أهل العلم في المحكم والمتشابه على ثمانية أقوال :

أحدها : أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وهذا قول ابن عباس وابن مسعود .

والثاني : أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال وهو قول مأثور .

والثالث : أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه الذي تكررت ألفاظه وهذا قول عبد الرحمن بن زيد .

والرابع : أن المحكم ما علم العلماء تأويله وفهموا معناه ، والمتشابه ما لم يكن [ ص: 72 ] لهم إلى علمه سبيل ، مما استأثر الله تعالى بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ، وغيره ، وهذا قول جابر .

والخامس : أن المحكم : ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه ، فلم تشتبه معانيه والمتشابه : ما اشتبهت معانيه ، وهذا قول مجاهد .

والسادس : أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها ، وهذا قول محمد بن جعفر بن الزبير .

والسابع : أن المحكم ما قام بنفسه ، ولم يحتج إلى استدلال ، والمتشابه ما لم يقم بنفسه واحتاج إلى استدلال ، وهو قول بعض المتكلمين .

والثامن : أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان . وهذا محتمل .

وفي قوله هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] . ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود لأنها أكثر المقصود وهذا قول يحيى بن يعمر .

والثاني : أنه أراد فواتح السور التي يستخرج منها القرآن وهذا قول أبي فاختة .

والثالث : أراد أنه معقول المعاني : لأنه يتفرع عنه ما يشاركه في معناه فيصير الأصل لفروعه كالأم لحدوثها عنه فلذلك سماه أم الكتاب .

وهذا محتمل .

فأما الذين في قلوبهم زيغ [ آل عمران : 7 ] . فيه وجهان :

أحدهما : شك قاله مجاهد .

والثاني : ميل .

فيتبعون ما تشابه منه فيه وجهان :

أحدهما : أنه الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من الحروف المقطعة في القرآن من انقضاء مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحساب الجمل .

والثاني : أنه معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته .

ابتغاء الفتنة فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه الشرك ، قاله السدي .

[ ص: 73 ] والثاني : أنه اللبس قاله مجاهد .

والثالث : أنه إفساد ذات البين .

وابتغاء تأويله فيه وجهان :

أحدهما : أن التأويل التفسير .

والثاني : أنه العاقبة المنتظرة .

وما يعلم تأويله إلا الله فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : تأويل جميع المتشابه ، لأن فيه ما يعلمه الناس وفيه ما لا يعلمه إلا الله ، وهذا قول الحسن .

والثاني : أن تأويله يوم القيامة ، لما فيه من الوعد والوعيد ، كما قال الله تعالى :

هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله [ الأعراف : 53 ] . يعني يوم القيامة ، وهذا قول ابن عباس .

والثالث : أن تأويله وقت حلوله ، وهذا قول بعض المتأخرين .

والراسخون في العلم فيه وجهان :

أحدهما : يعني الثابتين فيه ، والعاملين به .

والثاني : يعني المستنبطين له ، والعالمين به .

وفيهم وجهان :

أحدهما : أنهم داخلون في الاستثناء ؛ وتقديره : أن الذي يعلم تأويله الله والراسخون في العلم جميعا روىمجاهد عن ابن عباس قال : أنا ممن يعلم تأويله .

والثاني : أنهم خارجون من الاستثناء ويكون معنى الكلام : وما يعلم تأويله إلا

الله وحده ، ثم استأنف فقال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به .

كل من عند ربنا يحتمل وجهين :

أحدهما : علم ذلك عند ربنا .

والثاني : أن ما فصله الله من المحكم والمتشابه منزل من عند ربنا .

وإنما جعل الله تعالى كتابه محكما ومتشابها استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر ليتبين التفاضل ويستجزل الثواب

[ ص: 74 ] وقد روى معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " القرآن على ثلاثة أجزاء : " حلال فاتبعه ، وحرام فاجتنبه ، ومتشابه يشكل عليك فكله إلى عالمه " .

وإذا وضح ما ذكرناه فما تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام والأعلام ينقسم أربعة أقسام :

أحدها : محكم في أحواله .

والثاني : متشابه في أحواله .

والثالث : متشابه في حال ومحكم في حال .

والرابع : محكم من وجه ومتشابه من وجه .

فأما القسم الأول وهو المحكم في الأحوال فضربان : مفهوم ، ومعقول ، والفرق بينهما أن المفهوم ما لم يحتج إلى فكر ، والمعقول ما احتاج إلى فكر .

والمفهوم : ضربان :

أحدهما : ما فهم صريح لفظه كقوله تعالى في تحريم المناكح حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ النساء : 23 ] . الآية .

والثاني : ما فهم بمخرج خطابه مثل قوله في تحريم الخمر والقمار : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ المائدة : 90 ] . فدل وضع الخطاب على تحريمه .

والمعقول : ضربان :

أحدهما : ما علم بالتنبيه كقوله : وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء : 11 ] . بثلث الأم على أن الباقي للأب .

والثاني : ما علم بالاستدلال : مثل تقدير أقل الحمل بستة أشهر بقوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 14 ] . دل بقوله حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة : 233 ] . على أن الباقي من ثلاثين شهرا هو أقل مدة الحمل .

فهذه الضروب الأربعة ونظائرها محكمة غير متشابهة .

وأما القسم الثاني : وهو المتشابه في الأحوال : فضربان :

أحدهما : ما تلوحت فيه إشارة يحتمل الاستدلال بها كقوله في الكلالة : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس [ النساء : 12 ] . فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة . فقال : تكفيك آية الصيف " يعني قوله : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء : 176 ] . . . الآية

[ ص: 75 ] فسماها آية الصيف ، لأنها نزلت في الصيف فلم يزده في البيان عن الرد إلى الإشارة .

والضرب الثاني : ما تجرد عن إشارة كالحروف المفردة في القرآن مثل آلم و كهيعص ، [ مريم : 1 ] . حم عسق [ الشورى : 1 ] . فكانت على احتمال مشتبهة غير أن المراد في الضرب الأول خفي وفي هذا الضرب مبهم وكلاهما من المتشابه .

وأما القسم الثالث : وهو المتشابه في حال والمحكم في حال : فضربان :

أحدهما : العموم إذا خص .

والثاني : المجمل إذا فسر ، هما قبل البيان من المتشابه ، وبعد البيان من المحكم .

وأما القسم الرابع : وهو المحكم من وجه والمتشابه من وجه : فضربان :

أحدهما : أن يكون المتشابه في الموجب ، والمحكم في الواجب ، مثل قوله تعالى : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " [ الأنعام : 151 ، الإسراء : 33 ] . فالحق هو السبب الموجب وهو من المتشابه ، وإباحة القتل هو الواجب وهو من المحكم .

والضرب الثاني : أن يكون المحكم في الموجب والمتشابه في الواجب كقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] . والسبب الموجب هو استحصاد الزرع وهو من المحكم والحق المؤدى هو الواجب وهو من المتشابه .

فهذان الضربان ونظائرهما هو المحكم من وجه والمتشابه من وجه ثم على هذا الأصل تعتبر جميع النصوص .

التالي السابق


الخدمات العلمية