الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ] .

وأما أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضربان :

أحدهما : ما لا يتعلق بالديانات كمأكله ومشربه وملبسه ومنامه فيدل فعله على الإباحة دون الوجوب ، لأن أفعاله تتردد بين الحسن والجائز ولا يفعل ما يقبح في العقل أو يكره في الشرع ، فيكون التأسي به أبرك من المخالفة له ، قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] . إلا أن يقوم دليل على اختصاصه بالإباحة كما خص في المناكح بما حظره على غيره فلا يجوز اتباعه فيه .

والضرب الثاني : ما اختص بالديانات فله فيها ثلاثة أحوال :

إحداها : أن يأمر باتباعه فيها كما قال " صلوا كما رأيتموني أصلي وقال في الحج : خذوا عني مناسككم فيكون اتباعه فيها فرضا لاقتران أمره بفعله .

والحال الثانية : أن ينهى عن اتباعه فيها كما نهى عن الوصال في الصيام فانتهى الناس ثم واصل فواصلوا فقال : " أما إني كنت نهيت عن الوصال " فقالوا : رأيناك واصلت فواصلنا فقال : إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى " فلا يجب علينا اتباعه فيه لنهيه عنه .

وهو على ثلاثة أضرب :

أحدها : ما كان له مباحا وعلينا محظورا كالمناكح .

والضرب الثاني : ما كان له مستحبا ولنا مكروها كالوصال .

والضرب الثالث : ما كان عليه فرضا وعلينا ندبا كما قال : " فرض علي السواك ولم يفرض عليكم " .

والحال الثالثة : أن تتجرد أفعاله عن أن يأمر بها أو ينهى عنها ، فاتباعه فيها ندب ، واختلف فيها هل تكون فرضا أو مستحبة ؟ فيه وجهان :

[ ص: 101 ] أحدهما : وهو قول الأكثرين أنها مستحبة وليست بفرض إلا أن يقترن بها أمر لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يستسر بكثير من أفعاله ولو كان اتباعه فيها فرضا لأظهرها كما أظهر أقواله ليكون البلاغ بهما عاما .

والوجه الثاني : أن اتباعه فيها فرض ما لم ينه عنه لقول الله تعالى في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ النور : 63 ] . والأمر ينطلق على الفعل كانطلاقه على القول كما قال تعالى : وما أمر فرعون برشيد [ هود : 97 ] . أي فعل فرعون وكما قال الشاعر :


لها أمرها حتى إذا ما تبوأت بإخفافها بتنا نبوئ مضجعا



يعني بالأمر أفعال الإبل في سيرها .

وقد روي أن رجلا أرسل امرأة إلى أم سلمة - رضي الله عنها - ليسألها عن قبلة الصائم فقالت أم سلمة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبل وهو صائم . فقال الرجل : لسنا كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وأعاد زوجته لتسأل فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلا أنبأتها فقالت قد فعلت . فقالت : لسنا كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم بحدوده " .

فدل على وجوب اتباعه في أفعاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية