الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
القول في كاتب القاضي .

مسألة : قال الشافعي : " ولا ينبغي أن يتخذ كاتبا حتى يجمع أن يكون عدلا عاقلا ويحرص أن يكون فقيها لا يؤتى من جهالة نزها بعيدا من الطبع .

قال الماوردي : وهذا صحيح : لا يستغني قضاة الأمصار والولاة على الأعمال عن كاتب ينوب عنهم في ضبط الأمور ليتشاغل الولاة بالنظر ، ويتشاغل الكاتب بالإثبات ، وإنشاء الكتب .

قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب ، منهم علي بن أبي طالب وهو الذي كتب القضية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش عام الحديبية ، ومنهم زيد بن ثابت .

وروى ابن عباس : أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب ، يقال له السجل .

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزيد بن ثابت : تعرف السريانية ؟ قال : لا قال : " فإنهم يكتبون إلي ولا أحب أن يقرأ كتبي كل أحد فتعلم السريانية قال زيد فتعلمتها في نصف شهر .

ولفضل الكتابة في الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فادى أسرى بدر شرط على من لم يكن معه فداء أن يعلم عشرة من أهل المدينة الكتابة ، فكان زيد بن ثابت من جملة من تعلم منهم .

وقد كان للخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - كتاب مشهورون وكذلك لمن بعدهم .

[ ص: 199 ] ولأن تشاغل الولاة بالكتابة يقطعهم عن النظر المختص بهم ، وإذا كان كذلك فالقضاة ولاة لا يستغنون عن كتاب .

صفات كاتب القاضي .

وصفة كاتب القاضي ما ذكره الشافعي من أوصافه وهي أربعة :

أحدها : العدالة : لأنه مؤتمن على إثبات الإقرار والبينات وتنفيذ الأحكام فافتقر إلى صفة من تثبت به الحقوق كالشهود .

والثاني : أن يكون عاقلا ، وليس يريد ما يتعلق به التكليف ، وإنما يريد أن يكون جزل الرأي ، سديد التحصيل ، حسن الفطنة حتى لا يخدع . أو يدلس عليه .

والثالث : أن يكون فقيها ، ليعلم صحة ما يكتب من فساده ، فإن لم يكن فقيها بالأحكام الشرعية لزم أن يكون فقيها بأحكام كتابته ، وما يختص بالشروط ، من المحاضر والسجلات ، واستعمال الألفاظ الموضوعة لها ، والتحرز من الألفاظ المحتملة ، ويختار أن يكون واضح الخط ، فصيح اللسان .

والرابع : أن يكون نزيها بعيدا من الطمع ليؤمن أن يرتشي فيحابي .

فإذا ظفر القاضي بمن تكاملت فيه هذه الأوصاف الأربعة وأرجو أن يظفر به جاز أن يستكتبه .

ولا يجوز أن يستكتب عبدا ، وإن أكملها : لأن الحرية شرط في كمال العدالة .

ولا يجوز أن يستكتب ذميا وإن كان كافيا : لأنهم خرجوا بفسقهم في الدين عن قبول قولهم فيه .

وقد قال الله تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة [ الممتحنة : 1 ] .

وقال : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض [ المائدة : 51 ] .

وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة ، إلا كان له بطانتان : بطانة تدعوه إلى الخير وتحضه عليه ، وبطانة تدعوه إلى الشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله .

[ ص: 200 ] وهذا صحيح ، وقد جاء كتاب الله تعالى بمثل معناه وهو قوله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ آل عمران : 118 ] .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تستضيئوا بنار المشركين . أي لا ترجعوا إلى آرائهم ، ولا تعولوا على مشاورتهم .

وروي أن أبا موسى الأشعري قدم على عمر بن الخطاب ومعه كاتب نصراني ، فأعجب عمر بخطه وحسابه ، فقال لأبي موسى أحضر كاتبك ، ليقرأه فقال أبو موسى : إنه نصراني لا يدخل المسجد فزبره عمر وقال " لا تأمنوهم وقد خونهم الله ، ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله " .

وقال الشافعي في الأم : ما ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتبا ذميا ، ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلما ، ويعز المسلمين أن تكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم ، والقاضي أهل الناس في هذا عذرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية