الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            القول في كاتب القاضي .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولا ينبغي أن يتخذ كاتبا حتى يجمع أن يكون عدلا عاقلا ويحرص أن يكون فقيها لا يؤتى من جهالة نزها بعيدا من الطبع .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح : لا يستغني قضاة الأمصار والولاة على الأعمال عن كاتب ينوب عنهم في ضبط الأمور ليتشاغل الولاة بالنظر ، ويتشاغل الكاتب بالإثبات ، وإنشاء الكتب .

                                                                                                                                            قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب ، منهم علي بن أبي طالب وهو الذي كتب القضية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش عام الحديبية ، ومنهم زيد بن ثابت .

                                                                                                                                            وروى ابن عباس : أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب ، يقال له السجل .

                                                                                                                                            وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزيد بن ثابت : تعرف السريانية ؟ قال : لا قال : " فإنهم يكتبون إلي ولا أحب أن يقرأ كتبي كل أحد فتعلم السريانية قال زيد فتعلمتها في نصف شهر .

                                                                                                                                            ولفضل الكتابة في الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فادى أسرى بدر شرط على من لم يكن معه فداء أن يعلم عشرة من أهل المدينة الكتابة ، فكان زيد بن ثابت من جملة من تعلم منهم .

                                                                                                                                            وقد كان للخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - كتاب مشهورون وكذلك لمن بعدهم .

                                                                                                                                            [ ص: 199 ] ولأن تشاغل الولاة بالكتابة يقطعهم عن النظر المختص بهم ، وإذا كان كذلك فالقضاة ولاة لا يستغنون عن كتاب .

                                                                                                                                            صفات كاتب القاضي .

                                                                                                                                            وصفة كاتب القاضي ما ذكره الشافعي من أوصافه وهي أربعة :

                                                                                                                                            أحدها : العدالة : لأنه مؤتمن على إثبات الإقرار والبينات وتنفيذ الأحكام فافتقر إلى صفة من تثبت به الحقوق كالشهود .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون عاقلا ، وليس يريد ما يتعلق به التكليف ، وإنما يريد أن يكون جزل الرأي ، سديد التحصيل ، حسن الفطنة حتى لا يخدع . أو يدلس عليه .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون فقيها ، ليعلم صحة ما يكتب من فساده ، فإن لم يكن فقيها بالأحكام الشرعية لزم أن يكون فقيها بأحكام كتابته ، وما يختص بالشروط ، من المحاضر والسجلات ، واستعمال الألفاظ الموضوعة لها ، والتحرز من الألفاظ المحتملة ، ويختار أن يكون واضح الخط ، فصيح اللسان .

                                                                                                                                            والرابع : أن يكون نزيها بعيدا من الطمع ليؤمن أن يرتشي فيحابي .

                                                                                                                                            فإذا ظفر القاضي بمن تكاملت فيه هذه الأوصاف الأربعة وأرجو أن يظفر به جاز أن يستكتبه .

                                                                                                                                            ولا يجوز أن يستكتب عبدا ، وإن أكملها : لأن الحرية شرط في كمال العدالة .

                                                                                                                                            ولا يجوز أن يستكتب ذميا وإن كان كافيا : لأنهم خرجوا بفسقهم في الدين عن قبول قولهم فيه .

                                                                                                                                            وقد قال الله تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة [ الممتحنة : 1 ] .

                                                                                                                                            وقال : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض [ المائدة : 51 ] .

                                                                                                                                            وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة ، إلا كان له بطانتان : بطانة تدعوه إلى الخير وتحضه عليه ، وبطانة تدعوه إلى الشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله .

                                                                                                                                            [ ص: 200 ] وهذا صحيح ، وقد جاء كتاب الله تعالى بمثل معناه وهو قوله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ آل عمران : 118 ] .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تستضيئوا بنار المشركين . أي لا ترجعوا إلى آرائهم ، ولا تعولوا على مشاورتهم .

                                                                                                                                            وروي أن أبا موسى الأشعري قدم على عمر بن الخطاب ومعه كاتب نصراني ، فأعجب عمر بخطه وحسابه ، فقال لأبي موسى أحضر كاتبك ، ليقرأه فقال أبو موسى : إنه نصراني لا يدخل المسجد فزبره عمر وقال " لا تأمنوهم وقد خونهم الله ، ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله " .

                                                                                                                                            وقال الشافعي في الأم : ما ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتبا ذميا ، ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلما ، ويعز المسلمين أن تكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم ، والقاضي أهل الناس في هذا عذرا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية