الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 211 ] كتاب قاض إلى قاض

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ويقبل كل كتاب لقاض عدل ولا يقبله إلا بعدلين وحتى يفتحه ويقرأه عليهما فيشهدا أن القاضي أشهدهما على ما فيه وأنه قرأه بحضرتهما أو قرئ عليهما ، وقال : اشهدا هذا كتابي إلى فلان " .

قال الماوردي : أما كتب القضاة إلى القضاة والأمراء ، في تنفيذ الأحكام ، واستيفاء الحقوق فمحكوم بها ومعمول عليها .

والأصل فيها ما حكاه الله تعالى من كتاب سليمان إلى بلقيس قالت : قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين

[ النمل : 30 ] فأنذرها بكتابه ، ودعاها إلى دينه ، وجعله بمنزلة كلامه واقتصر فيه على أن قال : ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين فأوجز واختصر ، وهكذا تكون كتب الأنبياء موجزة مختصرة .

فاحتمل قوله : ألا تعلوا علي تأويلين :

أحدهما : لا تعصوني .

والثاني : لا تخالفوني .

واحتمل قوله " وأتوني مسلمين " تأويلين :

أحدهما : مسلمين بديني .

والثاني : مستسلمين لطاعتي .

وهو أول من افتتح بسم الله الرحمن الرحيم .

ولما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح كتبه بـ " بسم الله الرحمن الرحيم "

[ ص: 212 ] وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأمم يدعوهم إلى الإسلام فكتب إلى اثني عشر ملكا منهم كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم .

فأما كسرى فكتب إليه " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى كسرى بن هرمزان أسلموا تسلموا والسلام " . فلما وصل كتابه مزقه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تمزق ملكه .

وكتب إلى قيصر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، إلى قيصر عظيم الروم : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، الآية [ آل عمران : 64 ] . فلما وصل كتابه قبله ووضعه على رأسه وتركه في المسك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ثبت ملكه " .

وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم كتابا ذكر فيه الأحكام والزكوات والديات ، فصار في الدين شرعا ثابتا ، وعملا مستفيضا .

وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا وأمر عليهم عبد الله بن جحش ودفع إليه كتابا مختوما ، وقال : لا تفضه حتى تبلغ موضع كذا ، فإذا بلغته ففضه ، واعمل بما فيه ففضه في الموضع الذي أمره ، وعمل بما فيه ، وأطاعه الجيش عليه .

وكتب الخلفاء الراشدون إلى أمرائهم وقضاتهم بما عملوا عليه في الديانات والسياسات .

وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري عهده على قضاء البصرة وهو مشهور جعله المسلمون أصلا للعهود .

وكتب إلى أبي هريرة : أما بعد ، فإنه قد حصر بنا فالوحا الوحا .

وكتب علي بن أبي طالب إلى عبد الله بن عباس : أما بعد ؛ فإن الإنسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا ، ولا بما فاتك منها ترحا ، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة بطول أمل ، فكأن قد ، والسلام .

قال ابن عباس : فما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكتاب . فدلت هذه السنن والآثار على قبول الكتب في الأحكام ولأن ضرورات الحكام [ ص: 213 ] إليها داعيا في حفظ الحقوق : لأنها قد تبعد عن مستحقيها ويبعد عنها مستحقوها فلم يجد الحكام بدا من مكاتبة بعضهم لبعض بها .

فإذا تقرر هذا فللقاضي أن يكتب إلى غيره من القضاة بما وجب عنده من حكم ، أو ثبت عنده من حق ، ويكتب به إلى من هو أعلى منه وأدنى ، وإلى خليفته ومستخلفه .

ويكون المقصود به أمرين :

أحدهما : أن يثبت بها عند الثاني ما ثبت عند الأول .

والثاني : أن يقوم في تنفيذها واستيفائها مقام الأول .

متى يجب قبولها ؟

وإذا كان كذلك فلوجوب قبولها ثلاثة شروط :

أحدها : أن يكون الثاني عالما بصحة ولاية الأول ، فإن لم يعلم بصحة ولايته لم يلزمه قبول كتابه .

والشرط الثاني : أن يكون عالما بصحة أحكامه ، وكمال عدالته ، فإن لم يعلم لم يلزمه قبول كتابه .

والشرط الثالث : أن يعلم صحة كتابه فيما تضمنه من أحكام :

بأي شيء يعلم صحة الكتاب ؟

واختلف فيما يعلم به صحة كتابه .

فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء إلى أنه لا يجوز أن يقبله القاضي المكتوب إليه إلا أن يشهد به شاهدان على ما سنصنفه .

وذهب قضاة البصرة : الحسن ، وسوار بن عبد الله ، وعبيد الله بن الحسن العنبري ، وهو قول أبي يوسف ، وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام وهو إحدى الروايتين عن مالك ، ومال إليه من أصحاب الشافعي أبو سعيد الإصطخري ، أنه إذا عرف القاضي المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه واتصلت بمثله كتبه ؛ جاز أن يقبله ، ويعمل بما تضمنه ، احتجاجا بأمرين :

أحدهما : أن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت مقبولة ، يعمل بما فيها من غير شهادة . والثاني : أن عرف الحكام بقبولها مستفيض ، لتعذر الشهادة بها ، وسكون النفس إلى صحتها .

[ ص: 214 ] والدليل على فساد ما ذهبوا إليه ما روي أن رجلا ادعى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا غائبا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك ، أو يمينه " فجعل الحكم مقصورا على الشهادة دون الكتاب .

ولأن نقل ما غاب عن القاضي لا يثبت إلا بالشهادة دون الخط قياسا على خطوط الشهود إذا كتبوا إلى القاضي بشهادتهم لم يحكم بها ، كذلك كتب القضاة .

ولأن الخطوط تشتبه ، والتزوير على أمثالها ممكن ، فلم يجز مع هذا الاحتمال أن يعمل بها مع إمكان ما هو أحوط منها ، كما لم يجز أن تقبل شهادة الأعمى : لأنه قد يجوز أن تشتبه عليه الأصوات ، وعدل عنه إلى شهادة البصير لانتفاء الاشتباه عنه .

ولأن ما أمكن العمل فيه بالأقوى لم يجز العمل فيه بالأضعف ، كالشهادة على العقود ، لما أمكن أن تسمع من الشاهد لم يجز أن تسمع من المخبر .

فأما الجواب عن كتب رسول صلى الله عليه وسلم فمن وجهين :

أحدهما : أنها كانت ترد مع رسل يشهدون بها .

والثاني : أنها تجري مجرى الأخبار التي يخف حكمها لعمومها في التزامها والشهادة محمولة على الاحتياط تغليظا لالتزامها .

وأما الجواب عن دعوى الاستفاضة فهو أنه غير مسلم ثم هي استفاضة فعل مخصوص ، وليس باستفاضة اعتقاد عام .

التالي السابق


الخدمات العلمية