[ ص: 211 ] كتاب قاض إلى قاض
مسألة : قال
الشافعي رحمه الله : " ويقبل كل كتاب لقاض عدل ولا يقبله إلا بعدلين وحتى يفتحه ويقرأه عليهما فيشهدا أن القاضي أشهدهما على ما فيه وأنه قرأه بحضرتهما أو قرئ عليهما ، وقال : اشهدا هذا كتابي إلى فلان " .
قال
الماوردي : أما
nindex.php?page=treesubj&link=15171كتب القضاة إلى القضاة والأمراء ، في تنفيذ الأحكام ، واستيفاء الحقوق فمحكوم بها ومعمول عليها .
والأصل فيها ما حكاه الله تعالى من كتاب
سليمان إلى
بلقيس قالت :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=29قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=30إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين
[ النمل : 30 ] فأنذرها بكتابه ، ودعاها إلى دينه ، وجعله بمنزلة كلامه واقتصر فيه على أن قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين فأوجز واختصر ، وهكذا تكون كتب الأنبياء موجزة مختصرة .
فاحتمل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31ألا تعلوا علي تأويلين :
أحدهما : لا تعصوني .
والثاني : لا تخالفوني .
واحتمل قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31وأتوني مسلمين " تأويلين :
أحدهما : مسلمين بديني .
والثاني : مستسلمين لطاعتي .
وهو أول من افتتح بسم الله الرحمن الرحيم .
ولما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح كتبه بـ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=1بسم الله الرحمن الرحيم "
[ ص: 212 ] وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأمم يدعوهم إلى الإسلام فكتب إلى اثني عشر ملكا منهم
كسرى ملك
الفرس وقيصر ملك
الروم .
فأما
كسرى فكتب إليه "
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى كسرى بن هرمزان أسلموا تسلموا والسلام " . فلما وصل كتابه مزقه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تمزق ملكه .
وكتب إلى
قيصر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925576بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، إلى قيصر عظيم الروم : nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=64قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، الآية [ آل عمران : 64 ] . فلما وصل كتابه قبله ووضعه على رأسه وتركه في المسك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ثبت ملكه " .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
عمرو بن حزم كتابا ذكر فيه الأحكام والزكوات والديات ، فصار في الدين شرعا ثابتا ، وعملا مستفيضا .
وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا وأمر عليهم
عبد الله بن جحش ودفع إليه كتابا مختوما ، وقال :
لا تفضه حتى تبلغ موضع كذا ، فإذا بلغته ففضه ، واعمل بما فيه ففضه في الموضع الذي أمره ، وعمل بما فيه ، وأطاعه الجيش عليه .
وكتب الخلفاء الراشدون إلى أمرائهم وقضاتهم بما عملوا عليه في الديانات والسياسات .
وكتب
عمر إلى
أبي موسى الأشعري عهده على قضاء
البصرة وهو مشهور جعله المسلمون أصلا للعهود .
وكتب إلى
أبي هريرة : أما بعد ، فإنه قد حصر بنا فالوحا الوحا .
وكتب
علي بن أبي طالب إلى
عبد الله بن عباس : أما بعد ؛ فإن الإنسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا ، ولا بما فاتك منها ترحا ، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة بطول أمل ، فكأن قد ، والسلام .
قال
ابن عباس : فما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكتاب . فدلت هذه السنن والآثار على قبول الكتب في الأحكام ولأن ضرورات الحكام
[ ص: 213 ] إليها داعيا في حفظ الحقوق : لأنها قد تبعد عن مستحقيها ويبعد عنها مستحقوها فلم يجد الحكام بدا من مكاتبة بعضهم لبعض بها .
فإذا تقرر هذا فللقاضي أن يكتب إلى غيره من القضاة بما وجب عنده من حكم ، أو ثبت عنده من حق ، ويكتب به إلى من هو أعلى منه وأدنى ، وإلى خليفته ومستخلفه .
ويكون المقصود به أمرين :
أحدهما : أن يثبت بها عند الثاني ما ثبت عند الأول .
والثاني : أن يقوم في تنفيذها واستيفائها مقام الأول .
متى يجب قبولها ؟
وإذا كان كذلك فلوجوب قبولها ثلاثة شروط :
أحدها : أن يكون الثاني عالما بصحة ولاية الأول ، فإن لم يعلم بصحة ولايته لم يلزمه قبول كتابه .
والشرط الثاني : أن يكون عالما بصحة أحكامه ، وكمال عدالته ، فإن لم يعلم لم يلزمه قبول كتابه .
والشرط الثالث : أن يعلم صحة كتابه فيما تضمنه من أحكام :
بأي شيء يعلم صحة الكتاب ؟
واختلف فيما يعلم به صحة كتابه .
فمذهب
الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء إلى أنه لا يجوز أن يقبله القاضي المكتوب إليه إلا أن يشهد به شاهدان على ما سنصنفه .
وذهب قضاة
البصرة :
الحسن ،
وسوار بن عبد الله ،
وعبيد الله بن الحسن العنبري ، وهو قول
أبي يوسف ،
وأبي ثور وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام وهو إحدى الروايتين عن
مالك ، ومال إليه من أصحاب
الشافعي أبو سعيد الإصطخري ، أنه إذا عرف القاضي المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه واتصلت بمثله كتبه ؛ جاز أن يقبله ، ويعمل بما تضمنه ، احتجاجا بأمرين :
أحدهما : أن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت مقبولة ، يعمل بما فيها من غير شهادة . والثاني : أن عرف الحكام بقبولها مستفيض ، لتعذر الشهادة بها ، وسكون النفس إلى صحتها .
[ ص: 214 ] والدليل على فساد ما ذهبوا إليه ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=925578أن رجلا ادعى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا غائبا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك ، أو يمينه " فجعل الحكم مقصورا على الشهادة دون الكتاب .
ولأن نقل ما غاب عن القاضي لا يثبت إلا بالشهادة دون الخط قياسا على خطوط الشهود إذا كتبوا إلى القاضي بشهادتهم لم يحكم بها ، كذلك كتب القضاة .
ولأن الخطوط تشتبه ، والتزوير على أمثالها ممكن ، فلم يجز مع هذا الاحتمال أن يعمل بها مع إمكان ما هو أحوط منها ، كما لم يجز أن تقبل شهادة الأعمى : لأنه قد يجوز أن تشتبه عليه الأصوات ، وعدل عنه إلى شهادة البصير لانتفاء الاشتباه عنه .
ولأن ما أمكن العمل فيه بالأقوى لم يجز العمل فيه بالأضعف ، كالشهادة على العقود ، لما أمكن أن تسمع من الشاهد لم يجز أن تسمع من المخبر .
فأما الجواب عن كتب رسول صلى الله عليه وسلم فمن وجهين :
أحدهما : أنها كانت ترد مع رسل يشهدون بها .
والثاني : أنها تجري مجرى الأخبار التي يخف حكمها لعمومها في التزامها والشهادة محمولة على الاحتياط تغليظا لالتزامها .
وأما الجواب عن دعوى الاستفاضة فهو أنه غير مسلم ثم هي استفاضة فعل مخصوص ، وليس باستفاضة اعتقاد عام .
[ ص: 211 ] كِتَابُ قَاضٍ إِلَى قَاضٍ
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : " وَيَقْبَلُ كُلَّ كِتَابٍ لِقَاضٍ عَدْلٍ وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَا بِعَدْلَيْنِ وَحَتَّى يَفْتَحَهُ وَيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمَا فَيَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ أَشْهَدَهُمَا عَلَى مَا فِيهِ وَأَنَّهُ قَرَأَهُ بِحَضْرَتِهِمَا أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ : اشْهَدَا هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=15171كُتُبُ الْقُضَاةِ إِلَى الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ ، فِي تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ فَمَحْكُومٌ بِهَا وَمَعْمُولٌ عَلَيْهَا .
وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِتَابِ
سُلَيْمَانَ إِلَى
بِلْقِيسَ قَالَتْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=29قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=30إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
[ النَّمْلِ : 30 ] فَأَنْذَرَهَا بِكِتَابِهِ ، وَدَعَاهَا إِلَى دِينِهِ ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى أَنْ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فَأَوْجَزَ وَاخْتَصَرَ ، وَهَكَذَا تَكُونُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ مُوجَزَةً مُخْتَصَرَةً .
فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ تَأْوِيلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لَا تَعْصُونِي .
وَالثَّانِي : لَا تُخَالِفُونِي .
وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ "
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=31وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " تَأْوِيلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مُسْلِمِينَ بِدِينِي .
وَالثَّانِي : مُسْتَسْلِمِينَ لِطَاعَتِي .
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ افْتَتَحَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ كُتُبَهُ بِـ "
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=1بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "
[ ص: 212 ] وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ الْأُمَمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَتَبَ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ مَلِكًا مِنْهُمْ
كِسْرَى مَلِكُ
الْفُرْسِ وَقَيْصَرُ مَلِكُ
الرُّومِ .
فَأَمَّا
كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَيْهِ "
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَانَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَالسَّلَامُ " . فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ مَزَّقَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَمَزَّقَ مُلْكُهُ .
وَكَتَبَ إِلَى
قَيْصَرَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925576بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، إِلَى قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ : nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=64قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : 64 ] . فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ قَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَتَرَكَهُ فِي الْمِسْكِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَبُتَ مُلْكُهُ " .
وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ الْأَحْكَامَ وَالزَّكَوَاتِ وَالدِّيَاتِ ، فَصَارَ فِي الدِّينِ شَرْعًا ثَابِتًا ، وَعَمَلًا مُسْتَفِيضًا .
وَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا ، وَقَالَ :
لَا تَفُضَّهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَوْضِعَ كَذَا ، فَإِذَا بَلَغْتَهُ فَفُضَّهُ ، وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَفَضَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ ، وَأَطَاعَهُ الْجَيْشُ عَلَيْهِ .
وَكَتَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ بِمَا عَمِلُوا عَلَيْهِ فِي الدِّيَانَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ .
وَكَتَبَ
عُمَرُ إِلَى
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَهْدَهُ عَلَى قَضَاءِ
الْبَصْرَةِ وَهُوَ مَشْهُورٌ جَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ أَصْلًا لِلْعُهُودِ .
وَكَتَبَ إِلَى
أَبِي هُرَيْرَةَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ حُصِرَ بِنَا فَالْوَحَا الْوَحَا .
وَكَتَبَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ ، وَيَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ ، فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَرِحًا ، وَلَا بِمَا فَاتَكَ مِنْهَا تَرِحًا ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةُ بِطُولِ أَمَلٍ ، فَكَأَنَّ قَدِ ، وَالسَّلَامُ .
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا انْتَفَعْتُ وَلَا اتَّعَظْتُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ . فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ عَلَى قَبُولِ الْكُتُبِ فِي الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ ضَرُورَاتِ الْحُكَّامِ
[ ص: 213 ] إِلَيْهَا دَاعِيًا فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ : لِأَنَّهَا قَدْ تَبْعُدُ عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا وَيَبْعُدُ عَنْهَا مُسْتَحِقُّوهَا فَلَمْ يَجِدِ الْحُكَّامُ بُدًّا مِنْ مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَا .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِمَا وَجَبَ عِنْدَهُ مِنْ حُكْمٍ ، أَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ حَقٍّ ، وَيَكْتُبُ بِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَدْنَى ، وَإِلَى خَلِيفَتِهِ وَمُسْتَخْلِفِهِ .
وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَثْبُتَ بِهَا عِنْدَ الثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقُومَ فِي تَنْفِيذِهَا وَاسْتِيفَائِهَا مَقَامَ الْأَوَّلِ .
مَتَى يَجِبُ قَبُولُهَا ؟
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِوُجُوبِ قَبُولِهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عَالِمًا بِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِصِحَّةِ وِلَايَتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ كِتَابِهِ .
وَالشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصِحَّةِ أَحْكَامِهِ ، وَكَمَالِ عَدَالَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُ كِتَابِهِ .
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْلَمَ صِحَّةَ كِتَابِهِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أَحْكَامٍ :
بِأَيِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْكِتَابِ ؟
وَاخْتَلَفَ فِيمَا يَعْلَمُ بِهِ صِحَّةَ كِتَابِهِ .
فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ عَلَى مَا سَنُصَنِّفُهُ .
وَذَهَبَ قُضَاةُ
الْبَصْرَةِ :
الْحَسَنُ ،
وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ ،
وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
مَالِكٍ ، وَمَالَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ ، أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَخَتْمَهُ وَاتَّصَلَتْ بِمِثْلِهِ كُتُبُهُ ؛ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ ، وَيَعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ ، احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُتُبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَتْ مَقْبُولَةً ، يُعْمَلُ بِمَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ عُرْفَ الْحُكَّامِ بِقَبُولِهَا مُسْتَفِيضٌ ، لِتَعَذُّرِ الشَّهَادَةِ بِهَا ، وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى صِحَّتِهَا .
[ ص: 214 ] وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=925578أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا غَائِبًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شَاهِدَاكَ ، أَوْ يَمِينُهُ " فَجَعَلَ الْحُكْمَ مَقْصُورًا عَلَى الشَّهَادَةِ دُونَ الْكِتَابِ .
وَلِأَنَّ نَقْلَ مَا غَابَ عَنِ الْقَاضِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّهَادَةِ دُونَ الْخَطِّ قِيَاسًا عَلَى خُطُوطِ الشُّهُودِ إِذَا كَتَبُوا إِلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا ، كَذَلِكَ كُتُبُ الْقُضَاةِ .
وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ ، وَالتَّزْوِيرَ عَلَى أَمْثَالِهَا مُمْكِنٌ ، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مَعَ إِمْكَانِ مَا هُوَ أَحْوَطُ مِنْهَا ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى : لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى شَهَادَةِ الْبَصِيرِ لِانْتِفَاءِ الِاشْتِبَاهِ عَنْهُ .
وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَقْوَى لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ فِيهِ بِالْأَضْعَفِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُودِ ، لَمَّا أَمْكَنَ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الشَّاهِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الْمُخْبِرِ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كُتُبِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا كَانَتْ تَرِدُ مَعَ رُسُلٍ يَشْهَدُونَ بِهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَخْبَارِ الَّتِي يَخِفَّ حُكْمُهَا لِعُمُومِهَا فِي الْتِزَامِهَا وَالشَّهَادَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ تَغْلِيظًا لِالْتِزَامِهَا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَعْوَى الِاسْتِفَاضَةِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ ثُمَّ هِيَ اسْتِفَاضَةُ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ ، وَلَيْسَ بِاسْتِفَاضَةِ اعْتِقَادٍ عَامٍّ .