الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 6 ] باب عدة الشهود وحيث لا يجوز فيه النساء وحيث يجوز وحكم القاضي بالظاهر

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ودل الله جل ثناؤه على أن لا يجوز في الزنى أقل من أربعة لقوله لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء وقال سعد : يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ فقال : " نعم " ، وجلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاثة لما لم يقم الرابع ، وقال الله ، جل ثناؤه في الإمساك والفراق وأشهدوا ذوي عدل منكم فانتهى إلى شاهدين ، ودل على ما دل قبله من نفي أن يجوز فيه إلا رجال لا نساء معهم ، لأنه لا يحتمل إلا أن يكونا رجلين ، وقال الله جل ثناؤه في آية الدين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ولم يذكر في شهود الزنى ولا الفراق ولا الرجعة امرأة ، ووجدنا شهود الزنى يشهدون على حد لا مال ، والطلاق والرجعة تحريم بعد تحليل ، وتثبيت تحليل لا مال ، والوصية إلى الموصى إليه قيام بما أوصي به إليه لا أن له مالا ، ولا أعلم أحدا من أهل العلم خالف في أنه لا يجوز في الزنى إلا الرجال ، وأكثرهم قال ولا في الطلاق ولا في الرجعة إذا تناكر الزوجان ، وقالوا ذلك في الوصية ، فكان ذلك كالدلالة على ظاهر القرآن ، وكان أولى الأمور بأن يصار إليه ويقاس عليه ، والدين مال فما أخذ به المشهود له مالا جازت فيه شهادة النساء مع الرجال ، وما عدا ذلك فلا يجوز فيه إلا الرجال قال الشافعي رحمه الله : وفي قول الله تبارك وتعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان وقال : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث لا يجزن إلا مع الرجل ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعدا وأصل النساء أنه قصر بهن عن أشياء بلغها الرجال أنهم جعلوا قوامين عليهن ، وحكاما ، ومجاهدين ، وأن لهم السهمان من الغنيمة دونهن ، وغير ذلك ، فالأصل أن لا يجزن ، فإذا أجزن في موضع لم يعد بهن ذلك الموضع ، وكيف أجازهن محمد بن الحسن في الطلاق والعتاق وردهن في الحدود ؟ قال الشافعي رحمه الله : وفي إجماعهم على أن لا يجزن على الزنى ، ولم يستنبن في الإعواز من الأربعة - دليل [ ص: 7 ] على أن لا يجزن في الوصية إذ لم يستنبن في الإعواز من شاهدين " .

قال الماوردي : وجملة الشهادة أن المعتبر فيها ثلاثة شروط ، العدد ، والجنس ، والعدالة . فأما العدالة فمعتبرة في كل شهادة ، ولا تقبل شهادة الفاسق بحال ، وأما العدد والجنس ، فيعتبران بالمشهود فيه ، وهو ضربان :

أحدهما : ما كان من حقوق الله تعالى ، وهي تنقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : ما لا يقبل فيه أقل من أربعة رجال لا امرأة فيهم ، وهو الزنى ، واللواط ، وإتيان البهائم : لقول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء [ النور : 4 ] . الآية

وقال تعالى : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء الآية .

وقال تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم [ النساء : 15 ] . وقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا ، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : " نعم " شهد عند عمر على المغيرة بالزنى - أبو بكرة ، ونافع ، ونفيع وتوقف زياد عن إكمال الشهادة ، فجلد عمر الثلاثة ، ولم يرجم المغيرة .

والقسم الثاني : ما يقبل فيه شاهدان لا امرأة فيهما ، وهو ما سوى الزنى من حدود الله تعالى ، كالقطع في السرقة ، وحد الحرابة ، والجلد في الخمر ، والقتل في الردة ، وهو قول جمهور الفقهاء . وقال الحسن البصري : كل ما أوجب القتل لا أقبل فيه أقل من أربعة كالزنى ، وهذا فاسد ، لأن الزنى مختلف ، فبعضه يوجب الرجم ، وبعضه يوجب الجلد ، والشهادة فيهما واحدة ، فوجب أن يخالف ما عداه فيما يوجب القتل ، ولا يوجبه في ذلك أن تكون البينة فيه واحدة ، واتفقوا على أن شهادة النساء في الحدود غير مقبولة ، إلا ما حكي عن عطاء ، وحماد بن أبي سليمان أن شهادة النساء في الحدود مقبولة كالأموال ، وهذا فاسد . لقول الله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . ولأن حدود الله تعالى تدرأ بالشبهات ، فكانت الشهادة فيها أغلظ من الشهادة في غيرها مما لا يدرأ بالشبهات ، كما أن الزنى لما كان أغلظ من السرقة لتعديه إلى اثنين ، واختصاصه بإسقاط نسب الولد ، كانت الشهادة فيه أغلظ منها فيما عداه .

[ ص: 8 ] والقسم الثالث : ما اختلف عدد الشهادة فيه وهو الإقرار بالزنى ، وفيه للشافعي قولان :

أحدهما : أنه لا يثبت بأقل من أربعة شهود لا امرأة فيهم ، لأنه موجب لحد الزنى كالشهادة على فعل الزنى .

والقول الثاني : أنه يثبت بشاهدين ، لأنه إقرار فأشبه الإقرار بما عداه .

التالي السابق


الخدمات العلمية