الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 380 ] باب في القافة ودعوى الولد من كتاب الدعوى والبينات ومن كتاب نكاح قديم

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " أخبرنا سفيان عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه فقال : " ألم تري أن مجززا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد ، عليهما قطيفة ، قد غطيا رءوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ( قال الشافعي ) : فلو لم يكن في القافة إلا هذا انبغى أن يكون فيه دلالة أنه علم ، ولو لم يكن علما لقال له : لا تقل هذا : لأنك إن أصبت في شيء لم آمن عليك أن تخطئ في غيره ، وفي خطئك قذف محصنة ، أو نفي نسب ، وما أقره إلا أنه رضيه ، ورآه علما ، ولا يسر إلا بالحق ، صلى الله عليه وسلم ، ودعا عمر رحمه الله قائفا في رجلين ادعيا ولدا ، فقال : لقد اشتركا فيه ، فقال عمر للغلام : وال أيهما شئت ، وشك أنس في ابن له ، فدعا له القافة ( قال الشافعي ) رحمه الله : وأخبرني عدد من أهل العلم من المدينة ، ومكة أنهم أدركوا الحكام يفتون بقول القافة ، ( قال الشافعي ) رحمه الله : ولم يجز الله جل ثناؤه نسب أحد قط إلا إلى أب واحد ولا رسوله عليه السلام " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ، القيافة يحكم بها في إلحاق الأنساب ، إذا اشتبهت بالاشتراك في الوطء الموجب للحوق النسب ، فإذا اشترك الرجلان في وطء امرأة يظنها كل واحد منهما زوجته ، أو أمته ، أو يتزوجها كل واحد منهما تزويجا فاسدا يطؤها فيه ، أو كان نكاح أحدهما صحيحا يطؤها فيه ، ووطئها الآخر بشبهة ، أو يكونان شريكين في أمة ، فيشتركان في وطئها ، ثم تأتي بولد بعد وطئها لمدة لا تنقص عن أقل الحمل ، وهي ستة أشهر ، ولا تزيد على أكثره ، وهي أربع سنين ، فيمكن أن يكون من كل واحد منهما ، فلا يجوز أن يلحق بهما ، ولا يجوز أن يخلق من مائهما ، فيحكم بالقافة في إلحاقه بأحدهما :

وكذلك لو اشترك عدد كثير في وطئها ، حكم بالقافة في إلحاقه بأحدهم ، وسواء اجتمعوا على ادعائه ، والتنازع فيه ، أو تفرد به بعضهم في استوائه في إلحاقه بأحدهم ، وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب ، عليه السلام في القافة ، إذا وجدوا ، ويقرع بينهم إذا فقدوا ، وحكم عمر رضي الله عنه بالقافة في إحدى الروايتين عنه ، وبه قال [ ص: 381 ] أنس بن مالك ، وبه قال من التابعين عطاء ومن الفقهاء مالك ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه لا يحكم بالقافة ، ويجوز أن يخلق الولد من ماء رجلين وأكثر ، وألحقه بجميعهم ، ولو كانوا مائة .

وإذا تنازع امرأتان ولدا ألحقته بهما كالرجلين .

وقال أبو يوسف : ألحقه بالواحد إجماعا ، وبالاثنين أثرا ، وبالثلاثة قياسا ، ولا ألحقه بالرابع ، فتحرر الخلاف مع أبي حنيفة في ثلاثة أشياء :

أحدها : في إلحاقه بالقافة ، منع منها أبو حنيفة ، وجوزناه .

والثاني : في إلحاقه بأبوين ، جوزه أبو حنيفة ، وأبطلناه .

والثالث : في خلقه من ماءين فأكثر ، صححه أبو حنيفة ، وأفسدناه .

واستدل أصحاب أبي حنيفة على إبطال قول القافة ، وأن لا يكون للشبه تأثير في لحوق الأنساب بقول الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم وهذه صفة القائف ، وبقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك ولو تركبت عن الأشباه زالت عن مشتبه ، وبقوله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون

والقيافة من أحكام الجاهلية ، وقد أنكرت بعد الإسلام ، وعدت من الباطل ، حتى قال جرير في شعره :


وطال خياري غربة البين والنوى وأحدوثة من كاشح يتقوف

أي يقول : الباطل .

ومما روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، وأنا أنكره ، فقال : هل لك من إبل ؟ فقال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر . قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فمن أين هذا ؟ قال : لعل عرقا نزعه . قال : وهذا لعل عرقا نزعه " . فأبطل الاعتبار بالشبه الذي يعتبره القائف ، وبما روي أن العجلاني لما قذف من شريك بن السحماء بزوجته ، وهي حامل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فلا أراه إلا وقد كذب عليها ، فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أمره لبين ، لولا ما حكم [ ص: 382 ] الله لولا الأيمان ، لكان لي ولها شأن " ، فدل على أن حكم الله يمنع من اعتبار الشبه . قالوا : ولو كانت القيافة علما لعم في الناس ، ولم يختص بقوم ولأمكن أن يتعاطاه كل من أراد كسائر العلوم ، فلما لم يعم ولم يمكن أن يتعلم ، بطل ، أن يكون علما يتعلق به حكم ، ولأنه لما لم يعمل بالقيافة في إلحاق البهائم كان أولى أن لا يعمل بها في إلحاق الأنساب ، واستدلوا على جواز إلحاق الولد بآبائه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش ، وللعاهر الحجر " . فلما لم يمتنع الاشتراك في الفراش ، لم يمتنع الاشتراك في الإلحاق ، وبما روي من قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " اختصما في رجلين إليه وقد وطئا امرأة في طهر واحد ، فأتت بولد ، فدعا بالقائف ، وسأله ، فقال : قد أخذ الشبه منهما يا أمير المؤمنين ، فضربه عمر بالدرة ، حتى أضجعه ثم حكم بأنه ابنهما يرثهما ، ويرثانه ، وهو للباقي منهما ، فلم يظهر له في الحكم بهما مخالف مع اشتهار القضية ، فصار كالإجماع .

قالوا : ولأنهما قد اشتركا في السبب الموجب لثبوت النسب ، فوجب أن يكون لاحقا بهما كأبوين .

قالوا : ولأن أسباب التوارث لا يمتنع الاشتراك فيها كالولاء ، واستدلوا على جواز خلقه من ماء رجال بأنه لما خلق الولد من ماء الرجل الواحد ، إذا امتزج بماء المرأة في الرحم كان أولى أن يخلق من ماء الجماعة ، إذا امتزج ماؤهم بمائها ، لأنه بالاجتماع أقوى ، وبالانفراد أضعف ، والقوة أشبه بعلوق الولد من الضعف .

قالوا : ولأنه إذا جاز أن يخلق من اجتماع ماء الرجل الواحد من إنزال بعد إنزال ، جاز أن يخلق من اجتماع ماء الجماعة من وطء بعد وطء ، لأن اجتماع المياه من الجماعة كاجتماعها من الواحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية