الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 408 ] باب متاع البيت يختلف فيه الزوجان من كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى

مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت يسكنانه قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا ، كان البيت لهما أو لأحدهما ، أو يموتان أو أحدهما ، فيختلف في ذلك ورثتـهما ، فمن أقام بينة على شيء ، فهو له وإن لم يقم بينة ، فالقياس الذي لا يعذر أحد عندي بالغفلة عنه على الإجماع ، هذا المتاع بأيديهما جميعا ، فهو بينهما نصفين ، وقد يملك الرجل متاع المرأة ، وتملك المرأة متاع الرجل ، ولو استعملت الظنون عليهما ، لحكمت في عطار ، ودباغ ، يتنازعان عطرا ودباغا في أيديهما ، بأن نجعل للعطار العطر وللدباغ الدباغ ، ولحكمت فيما يتنازع فيه معسر وموسر من لؤلؤ بأن أجعله للموسر ولا يجوز الحكم بالظنون " .

قال الماوردي : إذا كان الزوجان في دار يسكناها ، إما ملكا لهما ، أو لأحدهما ، أو لغيرهما ، فاختلفا في متاعها الذي فيها من آلة ، وبسط وفرش ، ودراهم ، ودنانير ، وادعاه كل واحد منهما لنفسه ، أو ماتا ، فاختلف فيه ورثتهما ، أو مات أحدهما ، فاختلف فيه الباقي وورثة الميت ، أو كان ذلك في أخ ، أو أخت ، وكانا يسكنان دارا ، اختلفا في متاعها ، فكل ذلك سواء .

فإن كان لأحدهما بينة بملك ما ادعاه ، حكم بها ، وإن عدما البينة مع اختلافهما فيه ، فهما مشتركان في اليد حكما ، ويد كل واحد منهما على نصفه ، فيتحالفان عليه ويجعل بينهما بعد أيمانهما نصفين ، ويشتركان فيما يختص بالرجال كالعمائم ، والطيالسة ، والأقبية ، والسلاح .

وفيما يختص بالنساء كالحلي ، والمقانع ، ومصبغات الثياب ، وقمص النساء .

وفيما يصلح للرجال والنساء ، من البسط ، والفرش ، والآلة ، ولا يختص الرجال بآلة الرجال ، ولا النساء بآلة النساء ، ويستوي فيها يد المشاهدة ، ويد الحكم ، ويد المشاهدة أن يكون مقبوضا في أيديهما ، ويد الحكم أن يكون في ملكهما .

[ ص: 409 ] وقال سفيان الثوري : يجعل ما يختص بالرجال للرجال ، وما يختص بالنساء للنساء ، في يد المشاهدة ويد الحكم .

وقال أبو حنيفة : إن كانت أيديهما يد مشاهدة كانت بينهما ، وإن كانت يد حكم ، كان ما يختص بالرجال للزوج ، وما يختص بالنساء للزوجة ، وما يصح لكل واحد منهما يكون للزوج دون الزوجة ، فإن ماتا قام ورثتهما مقامهما ، وإن مات أحدهما ، وبقي الآخر ، كان القول في جميعه قول الباقي منهما ، فصار مخالفا لنا في خمسة أشياء :

أحدها : في يد المشاهدة ، ويد الحكم ، وفرق بينهما وهما عندنا سواء .

والثاني : فيما يختص بالرجال جعله للزوج ، وهو عندنا بينهما .

والثالث : ما يختص بالنساء جعله للزوجة ، وهو عندنا بينهما .

والرابع : فيما يصلح لهما جعله للزوج ، وهو عندنا بينهما .

والخامس : في موت أحدهما جعله للباقي منهما ، وهو عندنا بينهما .

وقال أبو يوسف : القول قول المرأة ، فيما جرت العادة ، أن يكون جهازا لمثلها ، وقول الزوج فيما جرت العادة أن يكون له فيه ، وقال زفر بما ذهبنا إليه ، وهو في الصحابة قول ابن مسعود رضي الله عنه ، واستدل أبو حنيفة ومن وافقه في تفصيل المتاع وتمييزه على الفرق في المشاهدة بين يد المشاهدة ويد الحكم ، أن يد كل واحد منهما في المشاهدة على نصفه ، وفي الحكم على جميعه بدليل أن مدعيا لو ادعاه في يد المشاهدة لم يكن له أن يدعي جميعه إلا عليها ، ولم يجز أن يختص أحدهما بالدعوى دون الآخر ، ولو ادعاه في يد الحكم جاز له أن يدعي جميعه على كل واحد منهما ، فدل على أن يد المشاهدة ، يد على نصفه ، ويد الحكم يد على جميعه ، فافترقا ، فلذلك ما افترقا فيه إذا تنازعا ، واستداما على التفصيل في يد الحكم ، فإن منع منه في يد المشاهدة ، فإن يد الحكم أقوى من يد المشاهدة ، في استيلائهما في الحكم ، على جميعه واختصاصها في المشاهدة على نصفه ، فلما وقع الترجيح في يد المشاهدة بين راكب الدابة ، وقائدها ، في جعل الدابة لراكبها دون قائدها ، اعتبارا بالعرف ، كان الترجيح في يد الحكم ، باعتبار العرف أولى .

وربما حرروا قياسا ، وقالوا : كل يد ثبت بها الاستحقاق ، جاز أن يقع فيها الترجيع قياسا على يد المشاهدة ، واستدلوا على أن الأثاث ، وآلته ، مختص بالزوج دونها فإنه السابق إلى اقتنائه ، والمنفرد بابتياعه ، فصار فيه أرجح ، فاختص به دونها واستدلوا على أن الحي منهما ، أحق به من ورثة الميت ، فإنه أسبق يدا ، وأقوى [ ص: 410 ] تصرفا ، وأظهر علما ، واستدلوا بأن الحادثة ، إذا حاذاها أصلان ألحقت بأقواهما شبها بها ، كالأحكام الشرعية .

ودليلنا عليهم في الجميع حديث عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " وكل واحد منهما مع اشتراكهما في اليد مدع ، ومدعى عليه .

ولأنه أثر مروي عن ابن مسعود ولم يظهر له في الصحابة مخالف ، فصار كالإجماع .

ولأن الاشتراك في اليد يمنع من الترجيح بالعرف ، قياسا على يد المشاهدة .

ولأن ما لم يترجح به يد المشاهدة ، لم يترجح به يد الحكم ، كتنازع الدباغ والعطار ، في عطره ودباغته .

ولأن ما يسقط فيه اعتبارا العرف في اليد المفردة ، سقط فيه اعتباره في اليد المشتركة ، كالغني ، والفقير ، في اللؤلؤ ، والجوهر ، ولو كان العرف مع اشتراك اليد معتبرا ، لأوجب تنازع العطار ، والدباغ في العطر والدباغة أن يجعل العطر للعطار والدباغة للدباغ ، وفي تنازع الغني والفقير ، في اللؤلؤ والجوهر أن تجعل للغني دون الفقير ، وفي أمثال ذلك من آلات الصناع ، وهم لا يقولونه ، فكذلك في أثاث البيت ، وهذا إلزام لا يتحقق عنه انفصال ويد المشاهدة تدفع جميع ما استدلوا به .

فأما الجواب عما قالوه أن يد الحكم توجب استيلاء كل واحد منهما على جميعه ، استشهادا بما ذكروه ، فهي أنها دعوى نخالفهم فيها ، وليس لكل واحد منهما في يد الحكم ، أن يدعيه إلا عليها ، ولا يدعيه على أحدهما ، وإنما يختص كل واحد منهما بدعوى نصفه ، كاليد المشاهدة فبطل احتجاجهم به ، ثم لما صارت يد كل واحد منهما على جميعه ، أن يكون موجبا لتفرد أحدهما ببعضه ، وعكسه في يد المشاهدة أشبه ، لتفرده باليد على البعض .

وأما الجواب على ما استدلوا به من راكب الدابة ، وقائدها ، فهو أن أصحابنا قد اختلفوا فيه على وجهين :

أحدهما : أنهما فيه سواء ، فسقط الاستدلال .

والوجه الثاني : أن الراكب أحق بها من القائد ، لأن للراكب مع اليد تصرفا ليس للقائد كلابس الثوب وممسكه ، يكون اللابس أحق به من الممسك .

وأما الجواب عما استدلوا به من الأثاث ، من سبوق يد الرجل عليه ، فهو أنها دعوى مدفوعة ، لجواز أن تسبق يد المرأة عليه بصنعة أو ابتياع من صانع ، ولأن المرأة

[ ص: 411 ] قد ترث متاع الرجل ، والرجل قد يرث متاع النساء ، وإن كان في ميراث متاع الرجال ، ومتاع النساء ، فلا يكون لأحدهما عليه يد سابقة ، ولا ينفرد أحدهما بمتاع جهة دون صاحبه .

وأما الجواب عن استدلالهم بترجيح الأحكام الشرعية ، فهو أن تعارض الأصول في الأحكام يوجب تغليب الأشبه ، لاعتبار الشبه فيه إذا انفرد ، ولما كانت الأملاك لا يعتبر فيها شبه العرف في اليد المنفردة ، لم يعتبر في اليد المشتركة ، كما لا يعتبر في يد المشاهدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية