الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 408 ] باب متاع البيت يختلف فيه الزوجان من كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت يسكنانه قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا ، كان البيت لهما أو لأحدهما ، أو يموتان أو أحدهما ، فيختلف في ذلك ورثتـهما ، فمن أقام بينة على شيء ، فهو له وإن لم يقم بينة ، فالقياس الذي لا يعذر أحد عندي بالغفلة عنه على الإجماع ، هذا المتاع بأيديهما جميعا ، فهو بينهما نصفين ، وقد يملك الرجل متاع المرأة ، وتملك المرأة متاع الرجل ، ولو استعملت الظنون عليهما ، لحكمت في عطار ، ودباغ ، يتنازعان عطرا ودباغا في أيديهما ، بأن نجعل للعطار العطر وللدباغ الدباغ ، ولحكمت فيما يتنازع فيه معسر وموسر من لؤلؤ بأن أجعله للموسر ولا يجوز الحكم بالظنون " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا كان الزوجان في دار يسكناها ، إما ملكا لهما ، أو لأحدهما ، أو لغيرهما ، فاختلفا في متاعها الذي فيها من آلة ، وبسط وفرش ، ودراهم ، ودنانير ، وادعاه كل واحد منهما لنفسه ، أو ماتا ، فاختلف فيه ورثتهما ، أو مات أحدهما ، فاختلف فيه الباقي وورثة الميت ، أو كان ذلك في أخ ، أو أخت ، وكانا يسكنان دارا ، اختلفا في متاعها ، فكل ذلك سواء .

                                                                                                                                            فإن كان لأحدهما بينة بملك ما ادعاه ، حكم بها ، وإن عدما البينة مع اختلافهما فيه ، فهما مشتركان في اليد حكما ، ويد كل واحد منهما على نصفه ، فيتحالفان عليه ويجعل بينهما بعد أيمانهما نصفين ، ويشتركان فيما يختص بالرجال كالعمائم ، والطيالسة ، والأقبية ، والسلاح .

                                                                                                                                            وفيما يختص بالنساء كالحلي ، والمقانع ، ومصبغات الثياب ، وقمص النساء .

                                                                                                                                            وفيما يصلح للرجال والنساء ، من البسط ، والفرش ، والآلة ، ولا يختص الرجال بآلة الرجال ، ولا النساء بآلة النساء ، ويستوي فيها يد المشاهدة ، ويد الحكم ، ويد المشاهدة أن يكون مقبوضا في أيديهما ، ويد الحكم أن يكون في ملكهما .

                                                                                                                                            [ ص: 409 ] وقال سفيان الثوري : يجعل ما يختص بالرجال للرجال ، وما يختص بالنساء للنساء ، في يد المشاهدة ويد الحكم .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن كانت أيديهما يد مشاهدة كانت بينهما ، وإن كانت يد حكم ، كان ما يختص بالرجال للزوج ، وما يختص بالنساء للزوجة ، وما يصح لكل واحد منهما يكون للزوج دون الزوجة ، فإن ماتا قام ورثتهما مقامهما ، وإن مات أحدهما ، وبقي الآخر ، كان القول في جميعه قول الباقي منهما ، فصار مخالفا لنا في خمسة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : في يد المشاهدة ، ويد الحكم ، وفرق بينهما وهما عندنا سواء .

                                                                                                                                            والثاني : فيما يختص بالرجال جعله للزوج ، وهو عندنا بينهما .

                                                                                                                                            والثالث : ما يختص بالنساء جعله للزوجة ، وهو عندنا بينهما .

                                                                                                                                            والرابع : فيما يصلح لهما جعله للزوج ، وهو عندنا بينهما .

                                                                                                                                            والخامس : في موت أحدهما جعله للباقي منهما ، وهو عندنا بينهما .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف : القول قول المرأة ، فيما جرت العادة ، أن يكون جهازا لمثلها ، وقول الزوج فيما جرت العادة أن يكون له فيه ، وقال زفر بما ذهبنا إليه ، وهو في الصحابة قول ابن مسعود رضي الله عنه ، واستدل أبو حنيفة ومن وافقه في تفصيل المتاع وتمييزه على الفرق في المشاهدة بين يد المشاهدة ويد الحكم ، أن يد كل واحد منهما في المشاهدة على نصفه ، وفي الحكم على جميعه بدليل أن مدعيا لو ادعاه في يد المشاهدة لم يكن له أن يدعي جميعه إلا عليها ، ولم يجز أن يختص أحدهما بالدعوى دون الآخر ، ولو ادعاه في يد الحكم جاز له أن يدعي جميعه على كل واحد منهما ، فدل على أن يد المشاهدة ، يد على نصفه ، ويد الحكم يد على جميعه ، فافترقا ، فلذلك ما افترقا فيه إذا تنازعا ، واستداما على التفصيل في يد الحكم ، فإن منع منه في يد المشاهدة ، فإن يد الحكم أقوى من يد المشاهدة ، في استيلائهما في الحكم ، على جميعه واختصاصها في المشاهدة على نصفه ، فلما وقع الترجيح في يد المشاهدة بين راكب الدابة ، وقائدها ، في جعل الدابة لراكبها دون قائدها ، اعتبارا بالعرف ، كان الترجيح في يد الحكم ، باعتبار العرف أولى .

                                                                                                                                            وربما حرروا قياسا ، وقالوا : كل يد ثبت بها الاستحقاق ، جاز أن يقع فيها الترجيع قياسا على يد المشاهدة ، واستدلوا على أن الأثاث ، وآلته ، مختص بالزوج دونها فإنه السابق إلى اقتنائه ، والمنفرد بابتياعه ، فصار فيه أرجح ، فاختص به دونها واستدلوا على أن الحي منهما ، أحق به من ورثة الميت ، فإنه أسبق يدا ، وأقوى [ ص: 410 ] تصرفا ، وأظهر علما ، واستدلوا بأن الحادثة ، إذا حاذاها أصلان ألحقت بأقواهما شبها بها ، كالأحكام الشرعية .

                                                                                                                                            ودليلنا عليهم في الجميع حديث عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " وكل واحد منهما مع اشتراكهما في اليد مدع ، ومدعى عليه .

                                                                                                                                            ولأنه أثر مروي عن ابن مسعود ولم يظهر له في الصحابة مخالف ، فصار كالإجماع .

                                                                                                                                            ولأن الاشتراك في اليد يمنع من الترجيح بالعرف ، قياسا على يد المشاهدة .

                                                                                                                                            ولأن ما لم يترجح به يد المشاهدة ، لم يترجح به يد الحكم ، كتنازع الدباغ والعطار ، في عطره ودباغته .

                                                                                                                                            ولأن ما يسقط فيه اعتبارا العرف في اليد المفردة ، سقط فيه اعتباره في اليد المشتركة ، كالغني ، والفقير ، في اللؤلؤ ، والجوهر ، ولو كان العرف مع اشتراك اليد معتبرا ، لأوجب تنازع العطار ، والدباغ في العطر والدباغة أن يجعل العطر للعطار والدباغة للدباغ ، وفي تنازع الغني والفقير ، في اللؤلؤ والجوهر أن تجعل للغني دون الفقير ، وفي أمثال ذلك من آلات الصناع ، وهم لا يقولونه ، فكذلك في أثاث البيت ، وهذا إلزام لا يتحقق عنه انفصال ويد المشاهدة تدفع جميع ما استدلوا به .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما قالوه أن يد الحكم توجب استيلاء كل واحد منهما على جميعه ، استشهادا بما ذكروه ، فهي أنها دعوى نخالفهم فيها ، وليس لكل واحد منهما في يد الحكم ، أن يدعيه إلا عليها ، ولا يدعيه على أحدهما ، وإنما يختص كل واحد منهما بدعوى نصفه ، كاليد المشاهدة فبطل احتجاجهم به ، ثم لما صارت يد كل واحد منهما على جميعه ، أن يكون موجبا لتفرد أحدهما ببعضه ، وعكسه في يد المشاهدة أشبه ، لتفرده باليد على البعض .

                                                                                                                                            وأما الجواب على ما استدلوا به من راكب الدابة ، وقائدها ، فهو أن أصحابنا قد اختلفوا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهما فيه سواء ، فسقط الاستدلال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الراكب أحق بها من القائد ، لأن للراكب مع اليد تصرفا ليس للقائد كلابس الثوب وممسكه ، يكون اللابس أحق به من الممسك .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما استدلوا به من الأثاث ، من سبوق يد الرجل عليه ، فهو أنها دعوى مدفوعة ، لجواز أن تسبق يد المرأة عليه بصنعة أو ابتياع من صانع ، ولأن المرأة

                                                                                                                                            [ ص: 411 ] قد ترث متاع الرجل ، والرجل قد يرث متاع النساء ، وإن كان في ميراث متاع الرجال ، ومتاع النساء ، فلا يكون لأحدهما عليه يد سابقة ، ولا ينفرد أحدهما بمتاع جهة دون صاحبه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بترجيح الأحكام الشرعية ، فهو أن تعارض الأصول في الأحكام يوجب تغليب الأشبه ، لاعتبار الشبه فيه إذا انفرد ، ولما كانت الأملاك لا يعتبر فيها شبه العرف في اليد المنفردة ، لم يعتبر في اليد المشتركة ، كما لا يعتبر في يد المشاهدة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية