الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولا يجوز على أقل من نجمين " .

قال الماوردي : أما الأجل فهو شرط في صحة الكتابة ، لا يجوز أن تعقد حالة .

وقال أبو حنيفة ومالك ليس الأجل بشرط في صحتها وتجوز حالة ومؤجلة استدلالا بقول الله تعالى : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، ومن ذلك دليلان : أحدهما : عموم قوله " فكاتبوهم " ، ولم يفرق بين حال ومؤجل .

والثانى : قوله : إن علمتم فيهم خيرا ( النور : 33 ) ، والخير المال فجعل العقد مشروطا به .

قالوا : ولأنه عتق بعوض فاقتضى أن يجوز حالا ومؤجلا .

كما لو باع عبده على نفسه بثمن حال أو مؤجل صح وعتق ، وكذلك الكتابة .

[ ص: 147 ] قالوا : ولأنه عقد على عين فصح حالا ومؤجلا كالبيع .

قالوا : ولأنه إسقاط حق ؛ لأن السيد قد أسقط بها حقه من كسب عبده فلم يفتقر إلى أجل كالإبراء .

قالوا : ولأن دخول الأجل غرر ، فإذا صح العقد معه ، لزمكم على قولكم في السلم أن تجعلوه لخلوه من الأجل أصح ؛ لأن الشافعي يقول فيه : إذا جاز مؤجلا كان حالا أجوز ؛ لأنه من الغرر أبعد .

ودليلنا : قول الله تعالى : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم إلى قوله : " فيهم خيرا " ، ( النور : 33 ) ، . فسماها كتابة وأفردها بهذا الاسم من غيرها من العقود . والعقد إذا أفرد باسم وجب أن يختص بمعنى ذلك الاسم ، كالسلم سمي سلما ، لوجوب تسليم جميع الثمن كذلك الكتابة سميت كتابة لوجوب الكتابة .

والكتابة إنما ندبنا إليها في الحقوق المؤجلة دون المعجلة ألا تراه قال تعالى : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( البقرة : 282 ) ، وقال في المعجلة : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ، ( البقرة : 282 ) ، فدل اختصاص هذا العقد باسم الكتابة على اختصاصه بحكم التأجيل .

وفي هذا انفصال عن الاستدلال بعموم الآية ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر .

والغرر : ما تردد بين جوازين أخوفهما أغلبهما والكتابة الحالة غرر لأن الأغلب من أحوال المكاتب عجزه عنها فكان عقدها باطلا ويتحرر من اعتلال هذا الخبر قياس . فنقول : عقد معاوضة يتعذر فيه تسليم المعقود عليه وقت استحقاقه ، فوجب أن يكون باطلا كبيع العبد الآبق ، وكالسلم إلى أجل يتحقق عدمه فيه ولا يفسد بنكاح الصغيرة لأن تسليمها يستحق عند إمكان الاستمتاع بها . فإن قيل : هذا فاسد بالبيع على معسر يتعذر عليه تسليم الثمن ولا يوجب فساد البيع .

قيل : إعساره في الظاهر لا يوجب إعساره في الباطن ، لجواز أن يملك ما لا يعلم وإعسار المكاتب في الظاهر والباطن ؛ لأنه لا يجوز أن يملك قبل كتابته ، فافترقا في تعيين الإعسار ، فلذلك افترقا في الجواز .

فإن قيل : يفسد من وجه آخر وهو إذا كاتبه على مال كثير يؤديه في نجمين مقدرين بساعتين من يوم تتعذر منه القدرة عليه ، وتصح كتابته .

وكذلك في المعجل قيل : يمكنه قبل استحقاق النجم أن يؤجر نفسه ثلاثين سنة بقدر كتابته ، ولا يمكنه ذلك في الحال المعجل فافترقا .

[ ص: 148 ] فإن قيل : يفسد من وجه آخر وهو إذا باع عبده على نفسه بألف حالة صح ، وعتق وإن تعذر عليه دفع الثمن ، قيل : قد خرج فيه ابن أبي هريرة وجها محتملا : أن البيع يبطل لهذا المعنى ، فيكون الاعتراض به فاسدا .

والظاهر من مذهب الشافعي جوازه ، وقد نص عليه في كتاب الإقرار فقال : ولو قال لعبده : بعتك نفسك بألف فجحده العبد عتق عليه ؛ لأنه مقر بالعتق مدع للثمن . قيل : مقصود هذا البيع العتق وقد حصل .

فإن قيل : وكذلك الكتابة مقصودها العتق فوجب أن يصح .

قيل : الفرق بينهما أن العتق في الكتابة يحصل بعد الأداء ، والعتق في البيع يحصل قبل الأداء ، فجاز أن تبطل الكتابة بتعذر الأداء وإن لم يبطل به البيع ، وفي هذا انفصال عن استدلالهم به . ولأن الأجل في الكتابة إجماع دل عليه فعل الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كاتبوا عبيدهم مجمعين فيها على التأجيل ، ولم يعقدها أحد منهم حالة ، ولو جاز حلولها لتفرد بها بعضهم مع اختلاف الأغراض ، وغضب عثمان بن عفان رضي الله عنه على عبد له وأراد التضييق عليه . فقال : والله لأكاتبنك على نجمين فلو جازت حالة ، أو على أقل من نجمين لكان أحق بالتضييق عليه .

فأما : الجواب عن قول الله تعالى : إن علمتم فيهم خيرا ، ( النور : 133 ) فإن الخير هو المال فهو أن الشافعي قد أبطل هذا التأويل من وجهين :

أحدهما : أن العبد لا ملك له على قول من لم يجعله مالكا ، ولا على قول من جعله مالكا ؛ لأن سيده أخذه منه .

والثاني : أنه لو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيرا ؛ لأن المال يكون له ولا يكون فيه ، وإنما الذي فيه ما تأوله الشافعي من الاكتساب والأمانة ، ثم لو صح أن المراد به المال لما دل على جواز التعجيل ، ولكان بالتأجيل أحق حتى يجد المال .

وأما قياسهم على البيع ، فالمعنى فيه وجود المقصود به في الحلول والتأجيل ، وكذلك استدلالهم بالإبراء ؛ لأن مقصوده لا يتعذر ، ولأن الإبراء لا يجوز تعليقه عندنا بأجل وإن دخل في الكتابة فافترقا .

وأما السلم : فقد أجمعنا وهم على الفرق بين الكتابة والسلم لأنهم منعوا من حلول السلم وجوزوا حلول الكتابة ، ونحن منعنا من حلول الكتابة ، وجوزنا حلول السلم فصارا مفترقين على قولينا معا ، فلم يجز أن يستشهد بأحدهما على الآخر . ثم معنى الفرق بينهما عندنا أن الغرر ينتفي عن تعجيل السلم فجوزناه ، ويدخل في حلول الكتابة فأبطلناه .

[ ص: 149 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية