صفحة جزء
فصل

في استقبال المصلي على الأرض :

وله أحوال :

أحدها : أن يصلي في جوف الكعبة فتصح الفريضة والنافلة .

قلت : قال أصحابنا : والنفل فيها أفضل منه خارجها ، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة فإن رجاها فخارجها أفضل . والله أعلم .

[ ص: 215 ] ثم له أن يستقبل أي جدار شاء ، وله استقبال الباب ، إن كان مردودا ، أو مفتوحا ، وله عتبة قدر ثلثي ذراع تقريبا . هذا هو الصحيح .

ولنا وجه : أنه يشترط في العتبة ، أن تكون بقدر قامة المصلي طولا وعرضا ، ووجه : أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان .

الحال الثاني : لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - وبقي موضعها عرصة فوقف خارجها وصلى إليها جاز . فإن صلى فيها فله حكم السطح .

الحال الثالث : وهو أن يقف على سطحها ، فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص لم يصح على الصحيح .

وإن كان شاخص من نفس الكعبة فله حكم العتبة . إن كان ثلثي ذراع جاز ، وإلا فلا على الصحيح ، وفيه الوجهان الآخران .

ولو وضع بين يديه متاعا ، واستقبله ، لم يكف ، ولو استقبل بقية حائط أو شجرة ثابتة جاز ، ولو جمع تراب العرصة واستقبله أو حفر حفرة ووقف فيها ، أو وقف في آخر السطح ، أو العرصة ، وتوجه إلى الجانب الآخر وهو مرتفع عن موقفه جاز .

ولو استقبل حشيشا نابتا عليها أو خشبة أو عصا مغروزة غير مسمرة ، لم يكف على الأصح ، وإن كانت العصا مثبتة ، أو مسمرة ، كفت قطعا . لكن قال إمام الحرمين : إن خرج بعض بدنه عن محاذاتها ، كان على الخلاف الآتي ، فيمن خرج بعض بدنه عن محاذاة الكعبة .

قلت : لم يجزم إمام الحرمين بأنه يكون على ذلك الخلاف . بل قال : في هذا ، تردد ظاهر عندي .

وظاهر كلام الأصحاب : القطع بالصحة في مسألة العصا ؛ لأنه يعد مستقبلا ، بخلاف مسألة طرف الركن . والله أعلم .

الحال الرابع : أن يصلي عند طرف ركن الكعبة ، وبعض بدنه يحاذيه ، وبعضه يخرج عنه ، فلا تصح صلاته على الأصح .

ولو وقف الإمام بقرب الكعبة عند المقام ، أو غيره ، ووقف القوم خلفه مستديرين بالبيت ، جاز ، ولو وقفوا [ ص: 216 ] في أخريات المسجد ، وامتد صف طويل ، جاز ، وإن وقفوا بقربه ، وامتد الصف ، فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة .

الحال الخامس : أن يصلي بمكة خارج المسجد . فإن عاين الكعبة ، كمن يصلي على [ جبل ] أبي قبيس ، صلى إليها ، ولو بنى محرابه على العيان صلى إليه أبدا ، ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة ، وفي معنى المعاين من نشأ بمكة وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حال الصلاة ، فإن لم يعاين ولا تيقن الإصابة فله اعتماد الأدلة والعمل بالاجتهاد إن حال بينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل ، وكذا إن كان الحائل طارئا كالبناء على الأصح ، للمشقة في تكليف المعاينة .

الحال السادس : أن يصلي بالمدينة ، فمحراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نازل منزلة الكعبة . فمن يعاينه ، يستقبله ، ويسوي محرابه عليه ، بناء على العيان ، أو الاستدلال ، كما ذكرنا في الكعبة ، ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال .

وفي معنى المدينة ، سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب ، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين ، وفي الطريق التي هي جادتهم يتعين استقبالها ولا يجوز الاجتهاد .

وكذا القرية الصغيرة ، إذا نشأ فيها قرون من المسلمين ، ولا اعتماد على علامة بطريق يندر مرور الناس به ، أو يستوي مرور المسلمين والكفار به أو بقرية خربة ، لا يدرى ، بناها المسلمون أو الكفار ؟ بل يجتهد .

ثم هذه المواضع التي منعنا الاجتهاد فيها في الجهة ، هل يجوز في التيامن والتياسر إن كان محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لا يجوز بحال .

ولو تخيل حاذق في معرفة القبلة فيه تيامنا أو تياسرا فليس له ذلك وخياله باطل ، وأما سائر البلاد ، فيجوز على الأصح الذي قطع به الأكثرون ، والثاني : لا يجوز ، والثالث : لا يجوز في الكوفة خاصة ، والرابع : لا يجوز في الكوفة والبصرة ، لكثرة من دخلهما من الصحابة رضي الله عنهم .

[ ص: 217 ] الحال السابع : إذا كان بموضع لا يقين فيه .

اعلم أن القادر على يقين القبلة ، لا يجوز له الاجتهاد ، وفيمن استقبل حجر الكعبة مع تمكنه منها ، وجهان :

الأصح : المنع ؛ لأن كونه من البيت غير مقطوع به بل هو مظنون .

ثم اليقين ، قد يحصل بالمعاينة ، وبغيرها . كالناشئ بمكة ، العارف يقينا بأمارات ، وكما لا يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين ، لا يجوز اعتماد قول غيره .

وأما غير القادر على اليقين ، فإن وجد من يخبره بالقبلة عن علم ، اعتمده ، ولم يجتهد ، بشرط عدالة المخبر ، يستوي فيه الرجل والمرأة والعبد ، ولا يقبل كافر قطعا ، ولا فاسق ولا صبي ، ولا مميز على الصحيح فيهما .

ثم قد يكون الخبر صريح لفظ ، وقد يكون دلالة ، كالمحراب المعتمد ، وسواء في العمل بالخبر ، أهل الاجتهاد وغيرهم . حتى الأعمى يعتمد المحراب إذا عرفه باللمس حيث يعتمده البصير ، وكذا البصير في الظلمة .

وقال صاحب ( العدة ) : إنما يعتمد الأعمى على المس ، في محراب رآه قبل العمى . فإن لم يكن شاهده ، لم يعتمده ، ولو اشتبه عليه مواضع لمسها فلا شك أنه يصبر حتى يخبره غيره صريحا .

فإن خاف فوت الوقت صلى على حسب حاله وأعاد . هذا كله إذا وجد من يخبره عن علم ، وهو ممن يعتمد قوله . أما إذا لم يجد العاجز من يخبره فتارة يقدر على الاجتهاد وتارة لا يقدر .

فإن قدر ، لزمه واستقبل ما ظنه القبلة ولا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة ، وهي كثيرة فيها كتب مصنفة ، وأضعفها الرياح لاختلافها .

وأقواها القطب ، وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى ، بين الفرقدين والجدي إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى ، كان مستقبلا القبلة إن كان بناحية الكوفة وبغداد وهمدان وقزوين وطبرستان وجرجان ، وما والاها .

[ ص: 218 ] وليس للقادر على الاجتهاد تقليد غيره . فإن فعل وجب قضاء الصلاة ، وسواء خاف خروج الوقت أم لم يخفه .

لكن إن ضاق الوقت صلى كيف كان وتجب الإعادة . هذا هو الصحيح ، وفيه وجه لابن سريج : أنه يقلد عند خوف الفوات ، وفي وجه ثالث : يصبر إلى أن تظهر القبلة ، وإن فات الوقت ، ولو خفيت الدلائل على المجتهد لغيم أو ظلمة أو تعارض أدلة فثلاثة طرق ؛ أصحها : قولان :

أظهرهما : لا يقلد ، والثاني : يقلد ، والطريق الثاني : يقلد ، والثالث : يصلي بلا تقليد كيف كان ويقضي . فإن قلنا : يقلد لم يلزمه الإعادة على الصحيح وقول الجمهور .

قال إمام الحرمين : هذه الطرق إذا ضاق الوقت ، وقبل ضيقه ، يصبر ، ولا يقلد قطعا ، لعدم الحاجة . قال : وفيه احتمال من التيمم أول الوقت . أما إذا لم يقدر على الاجتهاد ، فإن عجز عن تعلم أدلة القبلة ، كالأعمى والبصير الذي لا يعرف الأدلة ، ولا له أهلية معرفتها ، وجب عليه تقليد مكلف مسلم عدل عارف بالأدلة ، سواء فيه الرجل والمرأة والعبد .

وفي وجه شاذ : له تقليد صبي مميز ، والتقليد : قبول قوله المستند إلى الاجتهاد . فلو قال بصير : رأيت القطب ، أو رأيت الخلق العظيم من المسلمين يصلون إلى هنا ، كان الأخذ به قبول خبر لا تقليدا .

ولو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين ، قلد من شاء منهما على الصحيح ، والأولى تقليد الأوثق والأعلم ، وقيل : يجب ذلك .

وقيل : يصلي مرتين إلى الجهتين ، وأما المتمكن من تعلم أدلة القبلة فيبنى على أن تعلمها فرض كفاية أم عين ؟ والأصح : فرض عين .

قلت : المختار ما قاله غيره ؛ أنه إن أراد سفرا ففرض عين ؛ لعموم حاجة المسافر إليها ، وكثرة الاشتباه عليه ، وإلا ففرض كفاية ، إذا لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم السلف ألزموا آحاد الناس بذلك ، بخلاف أركان الصلاة وشروطها . والله أعلم .

[ ص: 219 ] فإن قلنا : ليس بفرض عين ، صلى بالتقليد ، ولا يقضي كالأعمى ، وإن قلنا : فرض عين ، لم يجز التقليد .

فإن قلد قضى لتقصيره ، وإن ضاق الوقت عن التعلم ، فهو كالعالم إذا تحير ، وتقدم الخلاف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية