صفحة جزء
فصل

وأما أحكام الالتقاط .

فمنها : أن الذي يلزم الملتقط حفظ اللقيط ورعايته . فأما نفقته ، فلا تلزمه ، وسيأتي بيان محلها - إن شاء الله تعالى - . فإن عجز عن الحفظ لأمر عرض ، سلمه إلى القاضي ، وإن تبرم به مع القدرة ، فوجهان بناء على أن الشروع في فرض الكفاية هل يلزم الإتمام ويصير الشارع متعينا ؟ وموضع ذكره كتاب السير ، والأصح هنا : أن له التسليم إلى القاضي ، واختاره ابن كج ، ولا خلاف أنه يحرم عليه نبذه ورده إلى ما كان . واعلم أنهم يستعملون في هذا الباب لفظ الحضانة ، والمراد منه الحفظ والتربية ، لا الأعمال المفصلة في الإجارة ، لأن فيها مشقة ومؤنة كثيرة ، فكيف تلزم من لا تلزمه النفقة ؟ وقد أوضحه البغوي فقال : نفقة اللقيط وحضانته في ماله إن كان له مال ، ووظيفة الملتقط حفظه وحفظ ماله .

[ ص: 422 ] فرع

الملتقط البلدي ، إذا وجد لقيطا في بلدته ، أقر في يده ، وليس له نقله إلى البادية إن أراد الانتقال [ إليها ] ، بل ينتزع منه لمعنيين . أحدهما : أن عيش البادية خشن ، ويفوته العلم بالدين والصنعة . والثاني : تعريض نسبه للضياع . فلو كان الموضع المنتقل إليه من البادية في بياض البلدة يسهل عليه تحصيل ما يراد منها ، فعلى المعنى الأول : لا يمنع . وعلى الثاني : إن كان أهل البلد يختلطون بهم ، فكذلك ، وإلا ، منع . وكما ليس له نقله إلى البادية ، فليس له نقله إلى قرية . ولو أراد نقله إلى بلدة أخرى ، أو التقطه غريب في تلك البلدة ، وأراد نقله إلى بلدته ، فعلى المعنى الأول : لا يمنع ، وعلى الثاني : يمنع وينتزع اللقيط منه . والأول هو المنصوص ، وبه قال الجمهور . قال المتولي : ولا فرق بين سفر النقلة والتجارة ، والزيارة . ولو وجد القروي لقيطا في قريته أو قرية أخرى أو [ في ] بلدة ، يقاس بما ذكرناه في البلدي . ولو وجد الحضري اللقيط في بادية ، نظر ، إن كان في مهلكة ، فلا بد من نقله ، وللملتقط أن يذهب به إلى مقصده . ومن قال في اللقطة : يعرفها في أقرب البلاد ، يشبه أن يقول : لا يذهب به إلى مقصده رعاية للنسب . وإن كان في حلة أو قبيلة ، فله نقله إلى البلدة والقرية على المذهب ، وبه قطع الجمهور . وعن القاضي حسين : أنه على وجهين بناء على المعنيين . ولو أقام هناك ، أقر في يده قطعا . أما البدوي ، فإذا التقط في قرية ، أو بلدة ، وأراد المقام بها أقر في يده . وإن أراد نقله إلى البادية ، أو قرية ، أو بلدة أخرى ، فعلى ما ذكرناه في الحضري . وإن وجده في حلة ، أو قبيلة في البادية ، فإن كان من أهل حلة مقيمين في موضع راتب ، أقر في يده ، وإن كان ممن ينتقلون من موضع إلى موضع منتجعين ، ففي منعه وجهان .

[ ص: 423 ] قلت : أصحهما لا منع . والله أعلم .

فرع

لو ازدحم على لقيط في البلدة أو القرية مقيم بها وظاعن ، قال الشافعي - رضي الله عنه - في " المختصر " : المقيم أولى . قال الأصحاب : إن كان الظاعن يظعن إلى البادية ، أو إلى بلدة أخرى ، وقلنا : ليس للمنفرد الخروج به إلى بلدة ، فالمقيم أولى ، وإن جوزناه له ذلك ، فهما سواء . ولو اجتمع على لقيط في القرية قروي مقيم بها وبلدي ، قال ابن كج : القروي أولى ، وهذا يخرج على منع النقل من بلد إلى بلد . فإن جوزنا ، وجب أن يقال : هما سواء .

قلت : المختار الجزم بتقديم القروي مطلقا ، كما قاله ابن كج ، وإنما نجوز النقل إذا لم يعارضه معارض . والله أعلم .

ولو اجتمع حضري وبدوي على لقيط في البادية ، نظر ، إن وجد في حلة أو قبيلة ، والبدوي في موضع راتب ، فهما سواء . وقال ابن كج : البدوي أولى إن كان مقيما فيهم . وإن كان منتجعا ، فإن قلنا : يقر في يده لو كان منفردا ، فهما سواء ، وإلا ، فالحضري أولى . وإن وجد في مهلكة ، قال ابن كج : الحضري أولى . وقياس قوله : تقديم البدوي أو من كان مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط ، أقرب .

[ ص: 424 ] فرع

اللقيط قد يكون له مال يستحقه بكونه لقيطا أو بغيره ، فالأول : كالوقف على اللقطاء والوصية لهم ، والثاني : كالوصية لهذا اللقيط والهبة له والوقف عليه ، ويقبل له القاضي من هذا ما يحتاج إلى القبول . ومن الأموال التي يستحقها ، ما يوجد تحت يده واختصاصه ، فإن للصغير يدا واختصاصا كالبالغ ، والأصل الحرية ما لم يعرف غيرها ، وذلك كثيابه التي هو لابسها ، والمفروشة تحته ، والملفوفة عليه ، وما غطي به من لحاف وغيره ، وما شد عليه ، وعلى ثوبه ، أو جعل في جيبه من حلي ، ودراهم ، وغيرها ، وكذا الدابة التي عنانها بيده ، أو هي مشدودة في وسطه ، أو ثيابه ، والمهد الذي هو فيه ، وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه . وفي التي تحته ، وجه ضعيف . ولو كان في خيمة أو دار ليس فيهما غيره ، فهما له . وعن " الحاوي " وجهان في " البستان " .

قلت : وطرد صاحب " المستظهري " الوجهين في الضيعة وهو بعيد ، وينبغي القطع بأنه لا يحكم له بها . والله أعلم .

ولو كان بقربه ثياب وأمتعة موضوعة ، أو دابة ، فوجهان . أصحهما : لا تجعل له كما لو كانت بعيدة . والثاني : بلى ، لأن هذا يثبت اليد والاختصاص ، ألا ترى أن الأمتعة الموضوعة في السوق بقرب الشخص تجعل له . والمال المدفون تحت اللقيط لا يجعل له ، لأنه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل ، بخلاف ما يلف عليه ويوضع بقربه . فلو وجدت معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها : إن تحته دفينا له ، فوجهان . أصحهما عند الغزالي : أنه له بقرينة المكتوب . والثاني : لا أثر للرقعة ، وهو الموافق لكلام [ ص: 425 ] الأكثرين . قال الإمام : ومن عول على الرقعة ليت شعري ما يقول لو أرشدت الرقعة إلى دفين بالبعد منه ، أو دابة مربوطة بالبعد منه .

قلت : مقتضاه أن نجعله للقيط ، فإن الاعتماد إنما هو على الرقعة ، لا على كونه تحته . والله أعلم .

ولو كانت دابة مشدودة باللقيط وعليها راكب ، قال ابن كج : هي بينهما . ثم إن ما سوى الدفين من [ هذه ] الأموال إذا لم يجعل للقيط ، فهو لقطة ، والدفين قد يكون لقطة وقد يكون ركازا كما سبق .

[ فرع ]

إذا عرف للقيط مال ، فنفقته في ماله . فإن لم يعرف ، فقولان . أظهرهما : ينفق عليه الإمام من بيت المال من سهم المصالح . والثاني : يستقرض له الإمام من بيت المال أو بعض الناس . فإن لم يكن في بيت المال شيء ولم يقرض أحد ، جمع الإمام أهل الثروة من البلد ، وقسط عليهم نفقته ، وجعل نفسه منهم . ثم إن بان رقيقا ، رجعوا على سيده . وإن بان حرا ، أو له مال أو قريب ، فالرجوع عليه . وإن بان حرا لا قريب له ، ولا مال ولا كسب ، قضى الإمام حقهم من سهم الفقراء ، أو المساكين ، أو الغارمين كما يراه .

قلت : اعتباره القريب غريب ، قل من ذكره ، وهو ضعيف ، فإن نفقة القريب تسقط بمضي الزمان . والله أعلم .

[ ص: 426 ] أما إذا قلنا بالأظهر : إنه ينفق من بيت المال ، فإن لم يكن فيه مال ، أو كان هناك ما هو أهم ، كسد ثغر يعظم ضرره لو ترك ، قام المسلمون بكفايته ، ولم يجز لهم تضييعه . ثم هل طريقه طريق النفقة ، أم طريق القرض ؟ قولان . أظهرهما والذي يقتضي كلام العراقيين وغيرهم ترجيحه : أنه طريق القرض . فإن قلنا : طريق النفقة ، فقام به بعضهم ، اندفع الحرج عن الباقين . وإن امتنعوا ، أثموا كلهم ، وطالبهم الإمام . فإن أصروا ، قاتلهم ، وعند التعذر يقترض على بيت المال وينفق عليه ، وإن قلنا : طريق القرض يثبت الرجوع . وعلى هذا ، إن تيسر الاقتراض ، فذاك ، وإلا ، قسط الإمام نفقته على الموسرين من أهل البلد [ ثم ] إن ظهر عبدا ، فالرجوع على سيده . وإن ظهر له مال أو اكتسب ، فالرجوع عليه . فإن لم يكن له شيء ، قضي من سهم المساكين أو الغارمين . وإن حصل في بيت المال مال قبل بلوغه ويساره ، قضي منه . وإن حصل في بيت المال ، أو حصل للقيط مال دفعة واحدة ، قضي من مال اللقيط كما لو كان له مال وفي بيت المال مال . ولم يتعرض الأصحاب لطرد الخلاف ، في أنه إنفاق أو إقراض ، إذا كان في بيت المال مال وقلنا : نفقته منه ، والقياس طرده .

قلت : ظاهر كلامهم ، أنه إنفاق ، فلا رجوع لبيت المال قطعا ، وهذا هو المختار الظاهر والله أعلم .

وحيث قلنا : يقسطها الإمام على الأغنياء ، فذاك عند إمكان الاستيعاب . فإن كثروا أو تعذر التوزيع عليهم ، قال الإمام : يضربها السلطان على من يراه منهم باجتهاده . فإن استووا في اجتهاد ، تخير ، والمراد أغنياء تلك البلدة أو القرية .

[ ص: 427 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية