صفحة جزء
الطرف الخامس : في مسائل العين والدين .

مقصوده : أن يخلف الميت عينا ودينا على بعض الورثة ، أو على أجنبي ، فنصيب الوارث بعض ما عليه بالإرث ، أو الأجنبي بعض ما عليه بوصية .

وأول ما نقدمه أن الميت إذا لم يخلف إلا دينا على بعض الورثة ، برئ من عليه من حصته ، ولا تتوقف براءته على توفير حصة الباقين ؛ لأن الملك بالإرث لا يتأخر ، والإنسان لا يستحق على نفسه شيئا .

ولو خلف عينا ودينا على بعض الورثة ، نظر ، إن كان الدين من غير جنس العين ، أو من غير نوعه ، قسمت العين بين الورثة ، فما أصاب من لا دين عليه ، دفع إليه ، وما أصاب المدين ، دفع إليه إن كان مقرا مليئا .

وإن كان جاحدا أو معسرا ، فالآخر مستحق ظفر بغير جنس حقه . وحكمه مذكور في موضعه . وإن كان الدين من نوع العين ، بأن خلف عشرة عينا [ وعشرة دينا ] على أحد ابنيه الحائزين ، قال الأستاذ : يأخذ من لا دين عليه العشرة نصفها إرثا ونصفها قصاصا بما يصيبه من الدين . وفي كيفية القصاص الخلاف المعروف .

قال الإمام : هذا بعيد ، والخلاف إنما هو في تقاص الدينين ، لا في تقاص الدين والعين ، بل المذهب أن الإرث يثبت شائعا في العين والدين ، وليس لمن لا دين عليه الاستبداد بالعشرة إن كان المدين مقرا مليئا ، فإن تراضيا ، أنشآ عقدا ، وإن كان جاحدا أو معسرا ، فله أن يأخذها على قصد التملك ، لأنه ظفر بجنس حقه المتعذر تحصيله .

ولو خلف دينا وعينا ، وأوصى بالدين لإنسان وهو ثلث ماله أو أقل ، [ ص: 300 ] فحقه منحصر فيه ، فما نض دفع إليه . ولو أوصى بثلث الدين ، فوجهان : أحدهما : أن ما نض منه يضم إلى العين . فإن كان ما نض ثلث الجميع أو أقل ، دفع إلى الموصى له . وأصحهما : أنه كلما نض منه شيء ، دفع ثلثه إلى الموصى له وثلثاه إلى الورثة ؛ لأن الوصية شائعة في الدين .

إذا تقرر هذا ، فالدين المخلف مع العين من جنسه ونوعه ، إما أن يكون على وارث ، [ وإما على أجنبي ، وإما عليهما .

أما القسم الأول : على وارث ] ، فنصيبه من جملة التركة ، إما أن يكون مثل ما عليه من الدين ، وإما أكثر ، وإما أقل .

الحالة الأولى : أن يكون مثله ، فتصحح المسألة ، ويطرح مما صحت منه نصيب المدين ، وتقسم العين على سهام الباقين ، ولا يدفع إلى المدين شيء ، ولا يؤخذ منه شيء .

مثاله : زوج وثلاثة بنين ، وترك خمسة دينا على ابن ، وخمسة عشر عينا ، فجملة التركة عشرون ، نصيب كل ابن خمسة ، وما على المدين مثل نصيبه ، فتصحح المسألة من أربعة ، ويطرح منها نصيب ابن ، يبقى ثلاثة ، تقسم العين عليها ، نصيب كل واحد خمسة ، ونصيب المدين يقع قصاصا ، كذا أطلقوه .

قال الإمام : هذا محمول على ما إذا رضي المدين بذلك ، أو كان جاحدا ، أو معسرا . وعلى هذا ينزل الجواب المطلق في جميع هذه المسائل .

الحالة الثانية : أن يكون نصيبه أكثر مما عليه ، فتقسم التركة بينهم ، فما أصاب المدين ، طرح منه ما عليه ، ويعطى الباقي من العين .

الثالثة : أن يكون نصيبه أقل ، فيطرح من المسألة نصيبه ، وتقسم العين على الباقي ، فما خرج من القسمة ، يضرب في نصيب المدين الذي طرح ، فما بلغ ، فهو [ ص: 301 ] الذي حيي من الدين ، والمراد بهذه اللفظة أن ما يقع في مقابلة العين من الدين ، كالمستوفى بالمقاصة ، فكأنه حيي من الدين ، ولولا المقاصة ، فالدين على المفلس ميت فائت ، ثم الباقي من الدين بعد الذي حيي يسقط منه شيء ، ويبقى شيء يؤديه المدين إلى سائر الورثة .

وطريق معرفة الساقط والباقي ، أن تقسم كل التركة بين الورثة ، فما أصاب المدين ، طرح مما عليه من الدين ، فما بقي ، فهو الذي يؤديه المدين ، فيقسمه سائر الورثة على ما بقي من سهام الفريضة بعد إسقاط نصيب المدين .

مثاله : الدين في الصورة المذكورة ثمانية ، والعين اثنا عشر ، فسهام الفريضة أربعة ، يطرح منها نصيب المديون ، وتقسم العين على الباقي ، يخرج من القسمة أربعة ، تضربها في نصيب المدين وهو واحد ، يكون أربعة ، فذلك هو الذي حيي من الدين ، يبقى منه أربعة ، تأخذ منه نصيب المدين من التركة وهو خمسة ، تطرحها مما عليه ، يبقى ثلاثة ، فالثلاثة هي التي تبقى من الدين ، ويسقط واحد ، وتلك الثلاثة مقسومة على سهامهم مما صحت منه المسألة وهي ثلاثة . هذا إذا لم يكن وصية ، فإن كانت ، بأن خلف ابنين وترك عشرة عينا ، وعشرة دينا على أحدهما ، وأوصى بثلث ماله لزيد ، فوجهان :

أصحهما وينسب إلى ابن سريج وبه قطع الجمهور : أننا ننظر إلى الفريضة الجامعة للوصية والميراث وهي ثلاثة ، للموصى له سهم ، ولكل ابن سهم ، فيأخذ المدين سهمه مما عليه ، ويقتسم الابن الآخر وزيد العين نصفين ، وقد حيي من الدين خمسة ، يبقى خمسة ، للمدين ثلاثة ، يبقى [ ثلاثة ] وثلث ، إذا أداها اقتسمها الابن الآخر وزيد نصفين .

والوجه الثاني وينسب إلى أبي ثور : يأخذ الموصى له ثلث العين ، والابن [ ص: 302 ] الذي لا دين عليه ، يأخذ ثلثا إرثا ، والثلث قصاصا ، فيبرأ المدين من ثلثي الدين بالإرث والمقاصة ، يبقى عليه ثلث الدين ، يأخذه الموصى له .

القسم الثاني : أن يكون الدين على أجنبي ، فينظر : إن لم يكن وصية ، اشتركت الورثة في العين والدين ، وإن كانت ، فإما أن يكون لغير المدين ، وإما له ، وإما لهما .

فإن كانت لغيره ، بأن خلف ابنين ، وترك عشرة عينا وعشرة دينا على زيد ، وأوصى لعمرو بثلث ماله ، فالابنان وعمرو يقتسمون العين أثلاثا ، وكلما حصل من الدين شيء اقتسموه كذلك . ولو قيد الوصية بثلث الدين ، اقتسم الابنان العين . وأما الدين ، فقد ذكرنا فيه وجهين :

أحدهما : أن الحاصل منه الدين ، يضم إلى العين ويدفع ثلث الدين مما حصل إلى زيد ، ويسمى : وجه الحصر ، لأنه حصر حق الموصى له فيما يتنجز من الدين . وأصحهما : أن ما يحصل من الدين يدفع إلى زيد ثلثه ، ويسمى : وجه الشيوع . وإن كانت الوصية للمدين ، نظر فيما يستحقه بالوصية ، أهو مثل الدين ، أم أقل ، أم أكثر ؟ ويقاس بما ذكرنا فيما إذا كان الدين على وارث .

وإن كانت الوصية لهما ، بأن أوصى - والصورة ما سبق - لعمرو بثلث العين ، ولزيد بما عليه ، ورد الابنان الوصيتين إلى الثلث ، فيكون الثلث بينهما على أربعة ، لعمرو سهم ، ولزيد ثلاثة ، فعلى قول ابن سريج : الفريضة الجامعة من اثني عشر ، للوصيتين أربعة ، وللابنين ثمانية ، فيقتسم عمرو والابنان العين على قدر سهامهم وهي تسعة ، لعمرو سهم وتسع ، ولكل ابن أربعة وأربعة أتساع ، ويبرأ زيد من ثلاثة أرباع الثلث وهي خمسة دراهم ، يبقى عليه خمسة ، كلما أدى شيئا كان بين عمرو والابنين على تسعة ، فيحصل لعمرو خمسة أتساع درهم ، فيتم له ربع الثلث وهو درهم وثلثان ، وللابنين الباقي . ثم ليكن المصروف إلى عمرو عند خروج الدين من نفس العين إن كانت باقية .

وعلى الوجه المنسوب إلى أبي ثور : لعمرو ربع الثلث ، [ ص: 303 ] وهو درهم وثلثان يأخذه من العين ، والباقي من العين للابنين ، فيبرأ الغريم من خمسة ، يبقى عليه [ خمسة ] ، إذا أداها اقتسمها الابنان .

ولو خلف ابنين وعشرين درهما عينا وعشرة دينا على رجل ، وأوصى للغريم بما عليه ، ولزيد بعشرة من العين ، ولم يجز الابنان ما زاد على الثلث ، فيجعل الثلث بينهما نصفين .

ثم عن ابن سريج - رحمه الله - وجهان : أصحهما : أن الفريضة الجامعة من ستة ، للوصيتين اثنان ، وللابنين أربعة ، فلزيد من العشرين أربعة ، ولكل ابن ثمانية ، ويبرأ الغريم عن نصف الثلث وهو خمسة ، يبقى عليه خمسة ، إذا حصل منها شيء جعل بينهم أخماسا حتى يتم لزيد خمسة ، ولكل ابن عشرة .

والثاني : أنه يدفع إلى زيد من العين نصف وصيته وهو خمسة ، ويبرأ الغريم من نصف ما عليه وهو خمسة ، وللابنين باقي العين خمسة عشر ، ويقتصان باقي الدين وهو خمسة . قال الإمام : هذا الوجه على ضعفه يجري فيما سبق .

القسم الثالث : أن يكون الدين على وارث وأجنبي ، بأن ترك ابنين وعشرة عينا وعشرة [ دينا ] على أحدهما وعشرة [ دينا ] على أجنبي ، وأوصى بثلث ماله ، فعلى قياس ابن سريج والجمهور : الفريضة الجامعة من ثلاثة ، يجعل سهم المدين ما عليه ، ويقتسم [ الابن ] الآخر والموصى له العين نصفين ، وما حصل مما على الأجنبي اقتسماه نصفين .

وعلى الوجه الثاني : يأخذ الموصى له ثلث العين ، والباقي للابن الذي لا دين عليه ، ويبرأ الابن المدين مما عليه ، وإذا حصل ما على الأجنبي ، أخذ الموصى له ثلثيه ، والابن الذي لا دين عليه ثلثه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية