صفحة جزء
كتاب الجنايات

[ ص: 122 ] وهي القتل والقطع والجرح الذي لا يزهق ولا يبين ، وقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر .

قلت : قال البغوي : هو أكبر الكبائر بعد الكفر ، وكذا نص عليه الشافعي في كتاب الشهادات من " المختصر " وتقبل التوبة منه . ولو قتل مسلم ، ثم مات قبل التوبة ، لا يتحتم دخوله النار ، بل هو في خطر المشيئة كسائر أصحاب الكبائر ، فإن دخلها لم يخلد فيها خلافا للمعتزلة والخوارج . والله أعلم .

ويتعلق بالقتل الذي هو ليس مباحا سوى عذاب الآخرة مؤاخذات في الدنيا : القصاص والدية والكفارة ، لكن لا يجتمع القصاص والدية ، لا وجوبا ولا استيفاء ، وأما الكفارة فأعم منهما ، فتجب مع كل واحد منهما ، وقد تنفرد عنهما .

قلت : ويتعلق به أيضا التعزير في صور منها : إذا قتل من نساء أهل الحرب أو صبيانهم . والله أعلم .

ثم القصاص لا يختص بالنفس ، بل يجري في غير النفس من الأطراف وغيرها ، والكلام فيه قسمان : أحدهما : في موجب القصاص ، والثاني : في حكمه ، استيفاء وعفوا ، والأول نوعان : قصاص نفس وقصاص طرف وجراحات ، فنذكر موجب القصاص وواجبه في النفس ثم في الطرف ، أما موجب القصاص في النفس فله ثلاثة أركان : القتل والقتيل والقاتل . الركن الأول : القتل وهو كل فعل عمد محض مزهق [ ص: 123 ] للروح عدوان من حيث كونه مزهقا ، فهذا هو القتل الذي يتعلق به القصاص ، وقولنا : كل فعل ، ليشمل الجرح وغيره ، وقولنا : عدوان ، احتراز من القتل الجائز ، وقولنا : من حيث كونه مزهقا ، احتراز عما إذا استحق حز رقبته قصاصا فقده نصفين ، فإنه لا يتعلق به قصاص ، وإن كان عدوانا ، لأنه ليس بعدوان من حيث كونه مزهقا ، وإنما هو عدوان من حيث إنه عدل عن الطريق المستحق فيحتاج إلى بيان العمدية والمزهق وتعلق القصاص بالمباشرة والسبب ، وحكم اجتماع السبب والمباشرة ، وبيان حكم اجتماع المباشرتين ، وبيان اجتماع السببين ، فأما اجتماع السببين ، فمؤخر إلى كتاب الديات ، وأما الأربعة الباقية ، فنعقد فيها أطرافا :

الطرف الأول : في بيان العمدية ، وتمييز العمد من الخطأ وشبه العمد ، فإذا صدر منه فعل قتل غيره ، نظر ؛ إن لم يقصد أصل الفعل بأن زلق ، فسقط على غيره ، فمات به ، أو تولد الهلاك من اضطراب يد المرتعش ، أو لم يقصد الشخص وإن قصد الفعل ، بأن رمى صيدا ، فأصاب رجلا ، أو قصد رجلا ، فأصاب غيره ، فهذا خطأ محض لا يتعلق به قصاص ، وإن قصد الفعل والشخص معا ، فهذا قد يكون عمدا محضا ، وقد يكون شبه عمد ، وفي التمييز بينهما عبارات للأصحاب يجمعها أربعة أوجه ، أحدها : أنه إذا وجد القصدان وعلمنا حصول الموت بفعله ، فهو عمد محض ، سواء قصد الإهلاك ، أم لا ، وسواء كان الفعل مهلكا غالبا ، أم نادرا ، كقطع الأنملة ، وإن شككنا في حصول الموت به ، فهو شبه عمد ، والثاني : إن ضربه بجارح ، فالحكم على ما ذكرنا ، وإن ضربه بمثقل ، اعتبر مع ذلك في كونه عمدا أن يكون مهلكا غالبا ، فإن لم يكن مهلكا غالبا ، فهو شبه عمد ، واعترض الغزالي على الأول ، بأنه لو [ ص: 124 ] ضرب كوعه بعصا ، فتورم الموضع ، ودام الألم حتى مات ، فقد علمنا حصول الموت به ولا قصاص فيه ، بل تجب الدية ، وعلى الثاني بأن العمدية أمر حسي لا يختلف بالجارح والمثقل ، وكما يؤثر الجارح في الظاهر بالشق يؤثر المثقل في الباطن بالترضيض ، وفي كلام الإمام نحو هذا ، والوجه الثالث واختاره الغزالي : أن لإفضاء الفعل إلى الهلاك ثلاث مراتب : غالب وكثير ونادر ، والكثير : هو المتوسط بين الغالب والنادر ، ومثاله ، الصحة والمرض والجذام ، فالصحة هي الغالبة في الناس ، والمرض كثير ليس بغالب ، والجذام نادر ، فإن ضربه بما يقتل غالبا ، جارحا كان أو مثقلا ، فعمد ، وإن كان يقتل كثيرا فهو عمد إن كان جارحا كالسكين الصغير ، وإن كان مثقلا ، كالسوط والعصا ، فشبه عمد ، وإن كان يقتل نادرا ، فلا قصاص ، مثقلا كان أو جارحا ، كغرز إبرة لا يعقبه ألم ولا ورم ، والفرق بين الجارح والمثقل على هذا الوجه أن الجراحة لها أثر في الباطن قد يخفى ، ولأن الجرح وهو طريق الإهلاك غالبا بخلاف المثقل ، والوجه الرابع وهو الذي اقتصر عليه الجمهور ، أنه إن ضربه بما يقتل غالبا ، فعمد محض ، وإن لم يقتل غالبا ، فشبه عمد ، فهذه عبارات الأصحاب في التمييز ، والقصاص مختص بالعمد المحض دون الخطأ وشبه العمد .

فرع

جرحه بمحدد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس أو غيرها ، فمات في الحال أو بعد مدة بسراية تلك الجراحة وجب القصاص . والطعن بالسنان ، وغرز المسلة كالضرب بالسيف ، وهذا في الجراحات التي لها تأثير ، فأما إبانة فلقة من اللحم خفيفة فهو كغرز الإبرة كذا ذكره الإمام ، وإذا غرز إبرة فمات ، نظر ؛ إن غرزها [ ص: 125 ] في مقتل ، كالدماغ والعين وأصل الأذن والحلق وثغرة النحر والأخدع ، وهو عرق العنق ، والخاصرة والإحليل والأنثيين والمثانة والعجان ، وهو ما بين الخصية والدبر ، وجب القصاص ، وإن غرزها في غير مقتل ، نظر ؛ إن ظهر أثر الغرز بأن تورم الموضع ، للإمعان في الغرز ، والتوغل في اللحم ، وبقي متألما إلى أن مات ، وجب القصاص على المذهب ، وحكى ابن كج وابن الصباغ فيه وجهين وإن لم يظهر أثر ، ومات في الحال ، فثلاثة أوجه : أصحها : لا يجب القصاص ، ولكنه شبه عمد ، فيجب الدية ، والثاني : يجب القصاص ، والثالث : لا يجب قصاص ولا دية ، وفي " الرقم " للعبادي أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهرم ونضو الخلق ، يوجب القصاص بكل حال ، ولو غرز إبرة في جلدة العقب ونحوها ، ولم يتألم به ، فمات ، فلا قصاص ولا دية ، لعلمنا بأنه لم يمت به ، والموت عقبه موافقة قدر ، فهو كما لو ضربه بقلم ، أو ألقى عليه خرقة ، فمات في الحال .

فرع

لو ضربه بمثقل كبير يقتل غالبا كحجر ، أو دبوس كبيرين ، أو أحرقه ، أو صلبه ، أو هدم عليه حائطا ، أو سقفا ، أو أوطأه دابة ، أو دفنه حيا ، أو عصر خصيته عصرا شديدا ، فمات ، وجب القصاص ، وإن ضربه بسوط ، أو عصا خفيفة ، أو رماه بحجر صغير ، نظر ؛ إن والى به الضرب حتى مات ، أو اشتد الألم ، وبقي متألما حتى مات ، وجب القصاص ، وإن لم يوال واقتصر على سوط أو سوطين ، فإن كان في مقتل ، أو في شدة الحر أو البرد المعينين على الهلاك ، أو كان المضروب صغيرا أو ضعيفا بأصل الخلقة أو بعارض ، وجب القصاص ، لأنه مهلك غالبا ، وإن لم يكن شيء من ذلك ، فهو شبه عمد ، وإن خنقه ، أو وضع على فمه يده ، أو مخدة ونحوها حتى مات بانقطاع [ ص: 126 ] النفس ، وجب القصاص ، وإن خلاه وهو حي ، وجب القصاص أيضا إن انتهى إلى حركة المذبوح ، أو ضعف وبقي متألما حتى مات ، وإن زال الضعف والألم ، ثم مات ، فقد انقطع أثر ذلك الفعل ، فإن كانت مدة الإمساك على الفم قصيرة لا يموت مثله في مثلها غالبا ، فهو شبه عمد .

فرع

لو ضربه اليوم ضربة ، وغدا ضربة ، وهكذا فرق الضربات حتى مات ، فوجهان حكاهما ابن كج ، لأن الغالب السلامة عند تفريق الضربات ، وقال المسعودي : لو ضربه ضربة وقصد أن لا يزيد ، فشتمه ، فضربه ثانية ، ثم شتمه ، فضربه ثالثة حتى قتله ، فلا قصاص لعدم الموالاة ، وينبغي أن لا ينظر إلى صورة الموالاة ولا تقدر مدة التفريق ، بل يعتبر أثر الضربة السابقة والآلام الحاصلة بها ، فإن بقيت ثم ضربه أخرى ، فهو كما لو والى .

فرع

الضرب بجمع الكف ، كالضرب بالعصا الخفيفة .

فرع

لو سقاه دواء أو سما لا يقتل غالبا ، لكنه يقتل كثيرا ، فهو كغرز الإبرة في غير مقتل ، لأن في الباطن أغشية رقيقة تنقطع به ، وفي إلحاقه بالمثقل احتمال .

فرع

حبسه في بيت فمات جوعا ، أو عطشا ، نظر ؛ إن كان عنده طعام وشراب فلم يتناوله خوفا أو حزنا ، أو أمكنه طلبه ولو بالسؤال ، فلم يفعل ، لم يجب على حابسه قصاص ولا ضمان ، لأن المحبوس قتل نفسه ، وإن منعه الطعام والشراب ، ومنعه الطلب حتى مات ، نظر ؛ إن [ ص: 127 ] مضت مدة يموت مثله فيها غالبا بالجوع أو العطش ، وجب القصاص ، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفا ، والزمان حرا وبردا ، وإن لم تمض هذه المدة ، ومات ، فإن لم يكن به جوع أو عطش سابق ، فهو شبه عمد ، وإن كان به بعض جوع أو عطش ، ففي وجوب القصاص ثلاثة أقوال : أظهرها : أنه إن علم الحابس جوعه السابق ، لزمه القصاص ، وإلا فلا ، والثاني : يجب القصاص في الحالين ، والثالث : عكسه ، وشبهوا الجاهل بمن دفع رجلا دفعا خفيفا ، فسقط على سكين وراءه ، والدافع جاهل بها ، لا قصاص عليه ، فإن أوجبنا القصاص وجبت دية عمد بكمالها إن كان عالما ، ودية شبه عمد إن كان جاهلا ، وإن لم نوجب القصاص ، فقولان : أحدهما : تجب الدية بكمالها ، وإنما سقط القصاص للشبهة ، وأظهرهما وبه قطع الأكثرون : تجب نصف دية العمد أو شبه العمد . ولو منعه الشراب دون الطعام ، فلم يأكل المحبوس خوفا من العطش ، فمات ، فلا قصاص قطعا ، ولا ضمان أيضا على الأصح ، وبه قطع البغوي ، لأنه المهلك نفسه ، وقال القفال : يجب ، ولو حبسه ، وراعاه بالطعام والشراب ، فمات في الحبس ، فإن كان عبدا ، ضمنه باليد ، وإن كان حرا ، فلا ضمان أصلا ، سواء مات حتف أنفه ، أو بانهدام سقف أو جدار عليه ، أو بلسع حية ونحوها . ولو حبسه وعراه حتى مات بالبرد ، فهو كما لو حبسه ، ومنعه الطعام والشراب ، ذكره القاضي حسين . ولو أخذ طعامه ، أو شرابه ، أو ثيابه في مفازة ، فمات جوعا ، أو عطشا ، أو بردا ، فلا ضمان ، لأنه لم يحدث فيه صنعا .

فرع

لو سحر رجلا ، فمات ، سألناه ، فإن قال : قتلته بسحري ، وسحري يقتل غالبا ، لزمه القصاص ، وإن قال : قد يقتل ، والغالب أنه لا يقتل ، فهو [ ص: 128 ] إقرار بشبهة العمد ، وإن قال : قصدت غيره ، فتأثر به لموافقة الاسم الاسم ، فهو إقرار بالخطأ ، وفي الحالين دية شبه العمد ، والخطأ يكون في ماله ، ولا يلزم العاقلة إلا أن يصدقوه ، وسيعود ذكر السحر - إن شاء الله تعالى - في كتاب الديات ، ثم في كتاب دعوى الدم ، ولنا وجه ضعيف مذكور هناك ، أن السحر لا حقيقة له ، فلا قصاص فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية