صفحة جزء
الشرط الثالث : اجتماع الإمام والمأموم في الموقف . ولهما ثلاثة أحوال . الأول : إذا كانا في مسجد ، صح الاقتداء ، قربت المسافة بينهما أم بعدت لكبر المسجد ، وسواء اتحد البناء أم اختلف ، كصحن المسجد ، وصفته ، أو منارته وسرداب فيه ، أو سطحه وساحته ، بشرط أن يكون السطح من المسجد ، فلو كان مملوكا ، فهو كملك متصل بالمسجد ، وقف أحدهما فيه ، والآخر في المسجد . وسيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى . وشرط البناءين في المسجد ، أن يكون [ ص: 361 ] باب أحدهما نافذا إلى الآخر . وإلا ، فلا يعدان مسجدا واحدا . وإذا حصل هذا الشرط ، فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحا ، أو مردودا مغلقا ، أو غير مغلق . وفي وجه ضعيف : إن كان مغلقا ، لم يجز الاقتداء . ووجه مثله فيما إذا كان أحدهما على السطح ، وباب المرقى مغلقا . ولو كانا في مسجدين ، يحول بينهما نهر ، أو طريق ، أو حائط المسجد من غير باب نافذ من أحدهما إلى الآخر ، فهو كما إذا وقف أحدهما في مسجد ، والآخر في ملك . وسيأتي إن شاء الله تعالى . وإن كان في المسجد نهر ، فإن حفر النهر بعد المسجد ، فهو مسجد فلا يضر ، وإن حفر قبل مصيره مسجدا ، فهما مسجدان غير متصلين . قال الشيخ أبو محمد : لو كان في جوار المسجد مسجد آخر منفرد بإمام ، ومؤذن ، وجماعة ، فلكل واحد مع الآخر حكم الملك المتصل بالمسجد . وهذا كالضابط الفارق بين المسجد والمسجدين . فظاهره يقتضي تغاير الحكم ، إذا انفرد بالأمور المذكورة ، وإن كان باب أحدهما نافذا إلى الآخر .

قلت : الذي صرح به كثيرون ، منهم الشيخ أبو حامد ، وصاحب ( الشامل ) و ( التتمة ) ، وغيرهم : أن المساجد التي يفتح بعضها إلى بعض ، لها حكم مسجد واحد وهو الصواب . والله أعلم .

وأما رحبة المسجد ، فعدها الأكثرون منه ، ولم يذكروا فرقا بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق أم لا . وقال ابن كج : إن انفصلت فهي كمسجد آخر .

الحال الثاني : أن يكون في غير مسجد ، وهو ضربان : أحدهما : أن يكون في فضاء فيجوز الاقتداء ، بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع تقريبا على الأصح . وعلى الثاني : تحديد . والتقريب مأخوذ من العرف على الصحيح ، وقول الجمهور . وعلى الثاني : مما بين الصفين [ ص: 362 ] في صلاة الخوف . ولو وقف خلف الإمام صفان ، أو شخصان ، أحدهما وراء الآخر ، فالمسافة المذكورة تعتبر بين الصف الأخير ، أو الصف الأول ، أو الشخص الأخير والأول ، ولو كثرت الصفوف ، وبلغ ما بين الإمام والأخير فرسخا جاز . وفي وجه : يعتبر بين الإمام والصف الأخير إذا لم تكن الصفوف القريبة من الإمام متصلة على العادة . وهذا الوجه شاذ . ولو حال بين الإمام والمأموم ، أو الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر بلا سباحة ، بالوثوب ، أو الخوض ، أو العبور على جسر - صح الاقتداء . وإن كان يحتاج إلى سباحة ، أو كان بينهما شارع مطروق ، لم يضر على الصحيح . وسواء في الحكم المذكور ، كان الفضاء مواتا أو وقفا ، أو ملكا ، أو بعضه مواتا ، وبعضه ملكا ، أو بعضه وقفا . وفي وجه شاذ : يشترط في الساحة المملوكة اتصال الصفوف ، وفي وجه : يشترط ذلك إن كانت لشخصين ، والصحيح أنه لا يشترط مطلقا . وسواء في هذا كله كان الفضاء محوطا عليه أو مسقفا ، كالبيوت الواسعة أو غير محوط .

الضرب الثاني : أن يكونا في غير فضاء فإذا وقف أحدهما في صحن دار أو صفتها والآخر في بيت ، فموقف المأموم قد يكون عن يمين الإمام أو يساره ، وقد يكون خلفه . وفيه طريقتان . إحداهما : قالها القفال وأصحابه ، وابن كج ، وحكاها أبو علي في ( الإفصاح ) عن بعض الأصحاب : أنه يشترط فيما إذا وقف من أحد الجانبين ، أن يتصل الصف من البناء الذي فيه الإمام ، إلى البناء الذي فيه المأموم ، بحيث لا تبقى فرجة تسع واقفا ، فإن بقيت فرجة لا تسع واقفا ، لم يضر على الصحيح . ولو كان بينهما عتبة عريضة تسع واقفا ، اشترط وقوف مصل فيها وإن لم يمكن الوقوف عليها ، فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة . وأما إذا وقف خلف الإمام ، ففي صحة الاقتداء وجهان . أحدهما : البطلان . وأصحهما : الجواز إذا اتصلت الصفوف وتلاحقت . ومعنى اتصالها ، أن يقف رجل أو صف في آخر البناء [ ص: 363 ] الذي فيه الإمام ، ورجل أو صف في أول البناء الذي فيه المأموم ، بحيث لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع . والثلاث للتقريب . فلو زاد ما لا يتبين في الحس بلا ذرع لم يضر . وهذا القدر هو المشروع بين الصفين . وإذا وجد هذا الشرط ، فلو كان في بناء المأموم بيت عن اليمين ، أو الشمال ، اعتبر الاتصال بتواصل المناكب . هذه طريقة . الطريقة الثانية : طريقة أصحاب أبي إسحاق المروزي ، ومعظم العراقيين ، واختارها أبو علي الطبري : أنه لا يشترط اتصال الصف في اليمين واليسار ، ولا اتصال الصفوف في المواقف خلفه ، بل المعتبر : القرب والبعد على الضبط المذكور في الصحراء .

قلت : الطريقة الثانية : أصح . والله أعلم .

هذا إذا كان بين البناءين باب نافذ فوقف بحذائه صف أو رجل ، أو لم يكن جدار أصلا كالصحن مع الصفة ، فلو حال حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة ، لم يصح الاقتداء باتفاق الطريقتين ، وإن منع الاستطراق دون المشاهدة كالمشبك ، لم يصح على الأصح . وإذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر ، إما بشرط ، وإما دونه - صحت صلاة الصفوف خلفه تبعا له ، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الإمام جدار ، وتكون الصفوف مع هذا الواقف كالمأمومين مع الإمام ، حتى لا تصح صلاة من بين يديه ، إن تأخر عن سمت موقف الإمام ، إذ لم يجوز تقدم المأموم على الإمام . قال القاضي حسين : ولا يجوز أن يتقدم تكبيرهم على تكبيره . أما إذا وقف الإمام في صحن الدار ، والمأموم في مكان عال من سطح ، أو طرف صفة مرتفعة ، أو بالعكس ، فبماذا يحصل الاتصال ؟ وجهان . أحدهما ، قول الشيخ أبي محمد : إن كان رأس الواقف في السفل يحاذي ركبة الواقف في العلو صح الاقتداء ، وإلا فلا . والثاني : وهو الصحيح الذي قطع به الجماهير ، إن حاذى رأس الأسفل قدم الأعلى صح ، وإلا فلا . قال إمام [ ص: 364 ] الحرمين : الأول مزيف لا وجه له ، والاعتبار ، بمعتدل القامة . حتى لو كان قصيرا ، أو قاعدا فلم يحاذ ، ولو قام فيه معتدل القامة ، لحصلت المحاذاة ، كفى . وحيث لا يمنع الانخفاض القدوة ، وكان بعض الذين يحصل بهم الاتصال على سرير أو متاع ، وبعضهم على الأرض لم يضر . ولو كانا في البحر والإمام في سفينة والمأموم في أخرى وهما مكشوفتان فالصحيح أنه يصح الاقتداء إذا لم يزد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع ، كالصحراء ، وتكون السفينتان كدكتين في الصحراء ، يقف الإمام على إحداهما ، والمأموم على الأخرى . وقال الإصطخري : يشترط أن تكون سفينة الإمام مشدودة بسفينة المأموم . والجمهور على أنه ليس بشرط . وإن كانتا مسقفتين فهما كالدارين ، والسفينة التي فيها بيوت ، كالدار ذات البيوت . وحكم المدارس والرباطات والخانات حكم الدور . والسرادقات في الصحراء ، كالسفينة المكشوفة ، والخيام كالبيوت .

الحال الثالث : أن يكون أحدهما في المسجد ، والآخر خارجه ، فمن ذلك أن يقف الإمام في مسجد ، والمأموم في موات متصل به . فإن لم يكن بينهما حائل جاز ، إذا لم تزد المسافة على ثلاثمائة ذراع ، ويعتبر من آخر المسجد على الأصح . وعلى الثاني ، من آخر صف في المسجد . فإن لم يكن فيه إلا الإمام فمن موقفه . وعلى الثالث ، من حريم المسجد بينه وبين الموات . وحريمه : الموضع المتصل به ، المهيأ لمصلحته ، كانصباب الماء إليه ، وطرح القمامات فيه ، ولو كان بينهما جدار المسجد ، لكن الباب النافذ بينهما مفتوح ، فوقف بحذائه جاز ، ولو اتصل صف بالواقف في المحاذاة ، وخرجوا عن المحاذاة جاز ، ولو لم يكن في الجدار باب أو كان ولم يقف بحذائه بل عدل عنه ، فالصحيح الذي عليه الجمهور : أنه يمنع صحة الاقتداء . وقال أبو إسحاق المروزي : لا يمنع . وأما الحائل غير جدار المسجد ، فيمنع بلا خلاف . ولو كان بينهما باب مغلق [ ص: 365 ] فهو كالجدار ، لأنه يمنع الاستطراق والمشاهدة . وإن كان مردودا غير مغلق ، فهو مانع من المشاهدة دون الاستطراق ، أو كان بينهما مشبك ، فهو مانع من الاستطراق دون المشاهدة . ففي الصورتين ، وجهان . أصحهما عند الأكثرين : أنه مانع . هذا كله في الموات . فلو وقف المأموم في شارع متصل بالمسجد ، فهو كالموات على الصحيح . وعلى الثاني يشترط اتصال الصف من المسجد بالطريق . ولو وقف في حريم المسجد ، فقد ذكر في ( التهذيب ) : أنه كالموات ، وذكر أن الفضاء المتصل بالمسجد لو كان مملوكا ، فوقف المأموم فيه ، لم يصح اقتداؤه حتى يتصل الصف من المسجد بالفضاء . وكذلك يشترط اتصال الصف من سطح المسجد ، بالسطح المملوك ، وكذلك لو وقف في دار مملوكة متصلة بالمسجد ، يشترط الاتصال بأن يقف واحد في آخر المسجد متصل بعتبة الدار ، وآخر في الدار متصل بالعتبة بحيث لا يكون بينهما موقف رجل . وهذا الذي ذكره في الفضاء مشكل . وينبغي أن يكون كالموات . وأما ما ذكره في مسألة الدار ، فهو الصحيح . وقال أبو إسحاق المروزي : جدار المسجد لا يمنع ، كما قال في الموات . وقال أبو علي الطبري : لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل . ويجوز الاقتداء إذا كان في حد القرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية