صفحة جزء
فصل

في اجتماع سببين مختلفين في اقتضاء القصاص .

الجنايات الصادرة من جماعة الواردة على واحد المستعقبة موته إن كانت بحيث يجب القصاص لو انفردت كل واحدة ، وجب القصاص على الشركاء كما سبق ، وإلا فإما أن لا يجب القصاص بواحدة منها لتقاعد الفعل عن إيجاب القصاص بأن قتلوه خطأ أو لعدم الكفاءة بأن قتل حران عبدا ، فلا قصاص .

وإما أن يجب القصاص ببعضها دون بعض ، ولعدم الوجوب في حق البعض أسباب ، أحدها : أن تكون جناية بعضهم ضعيفة لا تؤثر في الزهوق كالخدشة الخفيفة فلا اعتبار بها ، وكأنه لم توجد سوى الجنايات الباقية .

الثاني : أن يغلب بعضها بقوته بحيث يقطع نسبة الزهوق إلى سائر الجنايات ، بأن جرحه جماعة ، ثم حز رقبته آخر ، فقصاص النفس على الحاز ، وأما الأولون ، فجارحون ، يتعلق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو دية مغلظة أو مخففة ، وقد سبق بيانه في الطرف [ ص: 161 ] الرابع من الركن الأول ، وعد من نظائره أن يصعد به على كرسي ، ويربط في عنقه حبلا ، ويشده إلى فوق ، فيجيء آخر فينحي ما تحت قدميه ، فالقاتل هو المنحي .

الثالث : أن تندمل بعض الجراحات ، ثم يوجد الباقي ، فعلى من اندملت جراحته ما تقتضيه جراحته ولا يلزمه قصاص النفس ، لأن القتل هو الجراحة السارية .

وإذا جرحه اثنان متعاقبان ، وادعى الأول الاندمال ، وأنكر الولي ، فلا قصاص على الأول ، وإذا عفا عن الثاني ، لم يأخذ منه إلا نصف الدية ، وإنما يأخذ منه كمال الدية إذا قامت بينة بالاندمال .

الرابع : أن يكون فعل أحدهما خطأ ، بأن جرحه أحدهما عمدا ، والآخر خطأ ، فلا قصاص على واحد منهما ، وعلى عاقلة المخطئ نصف دية الخطأ ، وفي مال العامد نصف دية العمد إن كانت جناية لا توجب قصاصا ، أو آل الأمر إلى الدية .

فإن قطع طرفا ، فعليه قصاصه ، وكذا لو جرح أحدهما عمدا ، والآخر شبه عمد ، لا قصاص على واحد منهما ، وتجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحبه ، وحكى الروياني في " جمع الجوامع " أنه قيل : إن للشافعي رحمه الله قولا أنه يجب القصاص على شريك المخطئ ، ذكره المزني في العقارب وتمنى الإمام أن يكون هذا قولا في المذهب ، والمشهور المنصوص في كتب الشافعي وقطع به الأصحاب ، أنه لا قصاص .

الخامس : أن يمتنع القصاص من بعضهم لمعنى فيه ، فله حالان ، أحدهما : أن يكون فعل من لا قصاص عليه مضمونا ، بأن شارك الأب أجنبيا في قتل الولد ، فعلى الأجنبي القصاص ، وعلى الأب نصف الدية المغلظة ، ومثله لو شارك حر عبدا في قتل عبد أو مسلم ذميا في قتل ذمي ، لا قصاص على الحر والمسلم ، ويجب على العبد والذمي ، ولو جرح ذمي ذميا ، ثم أسلم المجروح ، فجرحه مسلم ، أو [ ص: 162 ] جرح عبد عبدا ، ثم عتق المجروح ، فجرحه حر ومات منهما ، فعليهما القصاص ، لأن كل واحد لو انفرد بجنايته لزمه القصاص .

الحال الثاني : أن لا يكون مضمونا ، بأن جرح حربي ومسلم مسلما ، ومات منهما ، أو قطعت يد إنسان في سرقة أو قصاص ، ثم جرحه رجل عدوانا ، أو جرح مسلم مرتدا أو حربيا ، ثم أسلم ، فجرحه غيره ، أو جرح ذمي حربيا ، ثم عقدت الذمة للمجروح ، فجرحه ذمي آخر ، أو جرح صائلا ، ثم جرحه غيره ، ففي وجوب القصاص في الصور ، قولان .

أظهرهما : الوجوب كشريك الأب ، والثاني : لا ، بل عليه نصف الدية ، ولو جرحه سبع ، أو لدغته عقرب أو حية ، وجرحه مع ذلك رجل ، فطريقان ، أشهرهما : طرد القولين ، والثاني : القطع بأن لا قصاص ، وهذا أصح عند القاضي حسين ، والإمام والغزالي .

وموضع الطريقين فيما يقتضيه كلام الإمام أن يقصد السبع الجراحة ، فأما إذا وقع السبع عليه بلا قصد ، فلا قصاص قطعا ، وقال البغوي : لا فرق بين أن يقصده السبع بالجرح أم لا ، ففيه الطريقان .

ثم الخلاف فيما إذا كان جرح السبع بحيث يحصل منه الموت غالبا ، وإلا فشريكه شريك الجارح شبه عمد ، ولو جرح رجل عبده ، وجرحه عبد ، أو عتق ، فجرحه عبد ، أو حر ثم مات منهما ، ففي وجوب القصاص على شريك السيد طريقان أشهرهما ، طرد القولين .

والثاني : القطع بالوجوب ، لأن فعل السيد مضمون بالكفارة ، فشريكه شريك عامد ضامن ، كشريك الأب ، ولو جرح نفسه ، وجرحه غيره ، بني على أن قاتل نفسه هل عليه كفارة ؟ .

إن قلنا : نعم ، فكشريك السيد ، وإلا فكشريك الحربي ، وكيف كان فالمذهب الوجوب ، ولو رمى اثنان سهمين إلى مسلم في صف الكفار ، وقد علم أحدهما أنه مسلم ، ولم يعلم [ ص: 163 ] الآخر أن هناك مسلما ، فوجوب القصاص على العالم مبني على الخلاف في شريك السيد ، لأن فعل الجاهل مضمون بالكفارة .

فرع .

وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون العامدين ، يبنى على أن عمدهما عمد أم خطأ ؟ إن قلنا : عمد وهو الأظهر ، وجب ، وإلا فلا ، كذا أطلقه مطلقون .

وعن القفال وغيره أن الخلاف في صبي يعقل عقل مثله ، وفي مجنون له نوع تمييز ، فأما من لا تمييز له بحال ، فعمده خطأ ، وشريكه شريك مخطئ قطعا ، وعلى هذا جرى الأئمة ، منهم البغوي .

فرع .

إذا جرح شخص شخصا جراحتين إحداهما : عمد ، والأخرى : خطأ ، فمات بهما ، فلا قصاص في النفس ، لأن الزهوق لم يحصل بعمد محض .

وتجب نصف الدية المغلظة في ماله ، ونصف المخففة على عاقلته ، وقد يتعلق القصاص بجراحة العمد ، بأن تكون قطع طرف ، وكذا لو جرح حربيا أو مرتدا ، فأسلم ، فجرحه ثانيا ، أو قطع يد إنسان قصاصا ، أو بسرقة ، ثم جرحه ، أو قطع يده الأخرى ظلما ، أو قطع الصائل دفعا ، فلما ولى ، جرحه ، أو قطع يده الأخرى ، فلا قصاص في النفس .

ويثبت موجب الجراحة الواقعة في حال العصمة من قصاص ، أو دية مغلظة ، وكذا لو جرح العادل الباغي في القتال ، ثم جرحه بعده ، أو السيد عبده ثم جرحه بعد عتق ، أو جرح حربي مسلما ، ثم أسلم الجارح ، وجرحه ثانيا .

ولو قطع مسلم يد ذمي ، فأسلم ، فقطع يده الأخرى ، أو حر يد عبد ، فعتق ، فقطع يده الأخرى ، ومات بالسراية ، فلا قصاص في النفس .

[ ص: 164 ] ويجب قصاص الطرف المقطوع بعد الإسلام والحرية ، فإن اقتص في الطرف ، أخذ نصف الدية ، وإن عفا ، أخذ دية حر مسلم .

ولو قطع ذمي يد ذمي ، فأسلم القاطع ، ثم قطع يده الأخرى ، ومات بالسراية ، فلا قصاص في النفس ، ويجب قصاص الطرف المقطوع أولا ، فإن عفا المستحق ، أخذ دية ذمي .

فرع .

إذا داوى المجروح نفسه بسم قاتل ، بأن شربه ، أو وضعه على الجرح ، فإن كان السم مذففا ، فالمجروح قاتل نفسه ، وليس على الجارح قصاص في النفس ، وإنما عليه أرش جراحته أو القصاص إن تعلق بها قصاص طرف ، وإن كان السم مما لا يقتل غالبا ، فالجارح شريك لصاحب شبه عمد ، فلا قصاص عليه في النفس ، بل عليه نصف الدية المغلظة ، أو القصاص في الطرف إن اقتضته .

وإن كان السم قاتلا غالبا فإن لم يعلم المجروح ذلك ، فهو كالحالة الثانية ، وإن علمه ، ففي وجوب القصاص على الجارح طريقان .

أصحهما : أنه كشريك جارح نفسه ، والثاني : لا يجب قطعا ، لأنه شريك مخطئ ، لكونه قصد التداوي لا الإهلاك .

فرع .

لو خاط جرحه في لحم ميت ، لم يؤثر ، لأنه لا يؤلم ، وعلى الجارح القصاص ، أو كمال الدية ، وإن خاطه تداويا في لحم حي ، وكان ذلك مما يقتل غالبا ، ففي وجوب القصاص على الجارح الطريقان في التداوي بالسم القاتل غالبا .

وفي الصورتين لا فرق بين أن يفعل المجروح ذلك بنفسه ، أو يأمر به ، ولا شيء على المأمور ، ولو استقل به غيره ، فهو والأول جارحان متعديان .

ولو تولاه الإمام في مجروح ، فإن كان بالغا رشيدا ، فكذلك ، لأنه لا ولاية له عليه ، وإن كان صغيرا أو مجنونا ، [ ص: 165 ] فداواه لمصلحته ، فمات ، ففي وجوب القصاص على الإمام قولان ، كما لو قطع سلعة من صغير ، أو مجنون ، فمات منه .

فإن قلنا : لا قصاص ، وجب نصف دية مغلظة ، وهل هي على عاقلة الإمام أم في بيت المال ؟ فيه القولان المعروفان .

وحكم الجارح يبنى على الخلاف فيما إذا تولاه المجروح بنفسه ، فإن جعلنا وجوب القصاص عليه على الخلاف في مشاركة العامد الذي لا يضمن ، لم يجب هنا القصاص ، لأنه شارك من فعله مضمون بالقصاص ، أو الدية .

وإن نزلنا المجروح منزلة المخطئ لقصده التداوي ، ولم نوجب القصاص على شريكه ، فكذا هنا ، ولو قصد الخياطة في لحم ميت ، فغلط وخاط في حي ، فالجارح شريك مخطئ قطعا .

قال القفال : وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فغلط وأصابت الإبرة اللحم ، وأما الكي فكالخياطة ، فينظر أكوى لحما ميتا أو حيا يؤلم وله سراية ، ولا اعتبار بالمداواة بما لا يضر ، ولا يخشى منه هلاك ، ولا بما على المجروح من قروح ، ولا بما به من مرض وضنى .

فرع .

قطع أصبع رجل ، فتآكل موضع القطع ، فقطع المقطوع كفه خوفا من السراية ، نظر ، إن لم يتآكل إلا موضع القطع ، فليس على الجاني إلا القصاص في الأصبع ، أو أرشها إن لم يسر إلى النفس .

فإن سرى ، ففي وجوب القصاص على الجاني في النفس ، الخلاف المذكور في الخياطة ، وإن سرت الجناية إلى الكف ، ثم قطعها ، نظر ، أقطع في لحم ميت أم في حي ، ويكون الحكم كما ذكرنا في الخياطة .

ولو جرح عضوا ، فداواه المجروح فتآكل العضو ، فسقط ، فإن كان ما داواه به لا يورث التآكل ، فعلى الجارح ضمان العضو .

وإن كان يورث التآكل فليس عليه إلا أرش الجراحة ، فلو قال الجاني : داويت بما يحدث منه التآكل ، وأنكر المجني عليه ، صدق المجني عليه بيمينه ، لأن الجناية معلومة ، وغيرها [ ص: 166 ] من الأسباب غير معلوم ، قال البغوي : ويحتمل أن يقال : المصدق الجاني بيمينه ، لأن الأصل براءته ، ولو قطع يد إنسان ومات المقطوع ، فقال الوارث : مات بالسراية ، وقال الجاني : بل قتل نفسه ، فأيهما المصدق بيمينه ؟ وجهان ، أصحهما : الوارث ، وهو نصه في " الأم " .

فرع .

ضرب جماعة رجلا بسياط ، أو عصى خفيفة حتى قتلوه ، نظر ، إن كانت ضربات كل واحد منهم قاتلة لو انفردت ، فعليهم القصاص ، وإن آل الأمر إلى الدية ، فهل توزع عليهم على عدد الضربات ، أم على عدد الرءوس ؟ قولان ، أرجحهما الأول .

لأن الضربات تلاقي ظاهر البدن ، فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات ، وإن لم يكن ضرب كل واحد قاتلا ، بأن ضربه كل واحد من العدد الكثير ضربة ، فمات ، فثلاثة أوجه .

أحدها : لا قصاص على واحد ، والثاني : يجب على الجميع القصاص ، لئلا يصير ذريعة إلى القتل ، وأصحها : أنهم إن تواطئوا على أن يضربوه تلك الضربات ، فعليهم القصاص ، وإن وقعت اتفاقا ، فلا .

وإذا لم نوجب القصاص ، وجبت الدية قطعا ، كذا قاله الإمام ، وذكر البغوي أنه لو ضربه واحد سوطين ، أو ثلاثة ، وآخر خمسين سوطا ، أو مائة قبل زوال ألم الأول ، ولا تواطؤ ، فلا قصاص على واحد منهما ، لأن ضرب الأول شبه عمد .

والثاني شريك له ، ويجب بضرب الأول نصف دية شبه العمد ، وبضرب الثاني نصف دية العمد ، وأنه لو ضربه واحد خمسين ، ثم ضربه الآخر سوطين قبل زوال ألم الأول ، فإن كان الثاني عالما بضرب الأول ، فعليهما القصاص لظهور قصد الإهلاك فيهما ، وإن كان جاهلا ، فلا قصاص على واحد منهما ، لأنه لم يظهر قصد الإهلاك من الثاني .

والأول شريكه ، ويجب بضرب الأول نصف [ ص: 167 ] دية العمد ، وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد ، وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضا سوطين ، جاهلا مرضه ، حيث يجب القصاص ، بأن هناك لم يجد من يحيل عليه القتل سوى الضارب ، وليكن الحكم بتنصيف الدية في الصورتين تفريعا على أن التوزيع على الرءوس دون الضربات .

فرع .

جرحه رجل ، ونهشته حية ، ومات منهما ، فالجارح شريك الحية وقد سبق بيان القصاص ، وإذا آل الأمر إلى المال ، فعليه نصف الدية ، ولو جرحه مع ذلك سبع ، فوجهان ، أصحهما : عليه ثلث الدية والثاني : نصفها ، ويجعل غير الآدمي جنسا .

التالي السابق


الخدمات العلمية