صفحة جزء
فصل الثاني : المضاربة وهي أن يدفع ماله إلى آخر يتجر فيه والربح بينهما على ما شرطاه ، فإن قال : خذه واتجر به والربح كله لي فهو إبضاع ، وإن قال : والربح كله لك فهو قرض ، وإن قال : والربح بيننا فهو بينهما نصفين ، وإن قال : خذه مضاربة والربح كله لك أو لي لم يصح ، وإن قال : ولك ثلث الربح صح والباقي لرب المال ، وإن قال : ولي ثلث الربح فهل يصح ؛ على وجهين وإن اختلفا لمن الجزء المشروط ؛ فهو للعامل ، وكذلك حكم المساقاة ، والمزارعة ، وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله وما يلزمه فعله ، وفي الشروط وإذا فسدت فالربح لرب المال وللعامل الأجر ، وعنه : له الأقل من الأجرة أو ما شرط له من الربح


فصل

( الثاني : المضاربة ) وهي تسمية أهل العراق ، مأخوذة من الضرب في الأرض ، وهو السفر فيها للتجارة قال تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ المزمل : 20 ] ويحتمل أن تكون من ضرب كل منهما بسهم من الربح ، وسماه أهل الحجاز قراضا ، فقيل : هو مشتق من القطع ، يقال : قرض الفأر الثوب أي قطعه ، فكأن صاحب المال اقتطع منه قطعة ، وسلمها إلى العامل [ ص: 18 ] واقتطع له قطعة من ربحها ، وقيل : هو مشتق من المساواة ، والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران إذا توازنا .

وهي جائزة بالإجماع حكاه ابن المنذر ، وروى حميد بن عبد الله عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق ، وروي جوازه عن عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وحكيم بن حزام ، ولم يعرف لهم مخالف مع أن الحكمة تقتضيه ; لأن بالناس حاجة إليها ، فإن النقدين لا تنمى إلا بالتجارة ، وليس كل من يملكها يحسن التجارة ، ولا كل من يحسنها له مال فشرعت لدفع الحاجة .

( وهي أن يدفع ماله إلى آخر يتجر فيه ) يشترط في المال المدفوع أن يكون معلوما ، فلو دفع صبرة نقد ، أو أحد كيسين لم يصح ، قوله ( إلى آخر ) ليس شرطا فيه ، فلو دفعه إلى اثنين فأكثر مضاربة في عقد واحد جاز ، قوله ( يتجر فيه ) ظاهر ( والربح بينهما على ما شرطاه ) أي من شرط صحتها تقدير نصيب العامل منه ; لأنه لا يستحقه إلا بالشرط ، فلو قال : خذ هذا المال مضاربة ، ولم يذكر سهم العامل ، فالربح كله لرب المال ، والوضيعة عليه ، وللعامل أجرة مثله ، نص عليه ، وهو قول الجمهور ، فلو شرط جزءا من الربح لعبد أحدهما ، أو لعبدهما صح وكان لسيده ، وإن شرطاه لأجنبي ، أو لولد أحدهما ، أو امرأته ، أو قريبه ، وشرطا عليه عملا مع العامل صح ، وكانا عاملين ، وإلا لم تصح المضاربة ، كما لو قال : لك الثلثان على أن تعطي امرأتك نصفه ( فإن قال : خذه ، واتجر به ، والربح كله لي فهو إبضاع ) أي يصير جميع [ ص: 19 ] الربح لرب المال لا شيء للعامل فيه ، فيصير وكيلا متبرعا ; لأنه قرن به حكم الإبضاع ، فانصرف إليه ، فلو قال مع ذلك : وعليك ضمانه ، لم يضمنه ; لأن العقد يقتضي كونه أمانة غير مضمون فلا يزول ذلك بشرطه ( وإن قال : والربح كله لك فهو ) أي المال المدفوع ( قرض ) لا قراض ; لأن اللفظ يصلح له ، وقد قرن به حكمه ، فانصرف إليه كالتمليك ، فإن قرن به : ولا ضمان عليك فهو قرض شرط فيه نفي الضمان ، فلم ينتف به ( وإن قال : والربح بيننا فهو بينهما نصفين ) لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة ، ولم يترجح فيها أحدهما على الآخر ، فاقتضى التسوية - كـ هذه الدار بيني وبينك - ( وإن قال : خذه مضاربة والربح كله لك أو لي لم يصح ) لأن المضاربة تقتضي كون الربح بينهما ، فإذا شرط اختصاص أحدهما بالربح فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد ففسد ، كما لو شرط الربح كله في شركة العنان لأحدهما ، ويفارق إذا لم يقل : مضاربة ; لأن اللفظ يصلح لما أثبت حكمه من الإبضاع ، والقرض ، وينفذ تصرف العامل ; لأن الإذن باق ( وإن قال ) خذه مضاربة ( ولك ثلث الربح ) أو ربعه ، أو جزء معلوم ( صح ) لأن نصيب العامل معلوم ( والباقي لرب المال ) لأنه يستحق الربح بماله لكونه نماؤه وفرعه ، والعامل يأخذ بالشرط ، فما شرط له استحقه ، وما بقي فلرب المال بحكم الأصل ( وإن قال : ولي ثلث الربح ) ولم يذكر نصيب العامل ( فهل يصح ؛ على وجهين ) أصحهما يصح ، وقاله أبو ثور ; لأن الربح يستحقانه ، فإذا قدر نصيب أحدهما منه ، فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ كما علم أن ثلث الميراث للأب من قوله تعالى وورثه أبواه فلأمه الثلث [ النساء 61 ] ، والثاني : لا يصح ; لأن العامل إنما يستحق بالشرط ، ولم يوجد [ ص: 20 ] فتكون المضاربة فاسدة ، فإن قال : لي النصف ، ولك الثلث ، وسكت عن الباقي صح ، وكان لرب المال ، وإن قال : خذه مضاربة على الثلث أو بالثلث صح ، وكان تقديرا لنصيب العامل .

تنبيه : إذا قال : لك ثلث الربح وثلث ما يبقى من الربح صح ، وله خمسة أتساعه ، وإن قال : لك ربع الربح ، وربع ما يبقى ، فله ثلاثة أثمان ونصف ثمن سواء عرفا الحساب ، أو جهلاه في الأصح .

( وإن اختلفا لمن الجزء المشروط ) قليلا كان أو كثيرا ( فهو للعامل ) لأنه يستحقه بالعمل ، وهو يقل ، ويكثر ، وإنما تقدر حصته بالشرط بخلاف رب المال ، فإنه يستحق الربح بماله ، ويحلف مدعيه ; لأنه يحتمل خلاف ما قاله ، فيجب لنفي الاحتمال ، فلو اختلفا في قدر الجزء بعد الربح ، فقال العامل : شرطت لي النصف ، وقال المالك : الثلث ، قدم قوله ; لأنه منكر للزيادة ، وعنه يقبل قول العامل إن ادعى تسمية المثل أو دونها ; لأن الظاهر معه ، ولو قيل بالتحالف لم يبعد كالبيع ، فإن أقام كل منهما بينة قدمت بينة العامل ( وكذلك حكم المساقاة ، والمزارعة ) قياسا عليها ; لأن العامل في كل منهما إنما يستحق بالعمل ، وشمل هذا التشبيه للأحكام السابقة ( وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله وما يلزمه فعله ، وفي الشروط ) لاشتراكهما في التصرف بالإذن ، فما جاز للشريك فعله جاز للمضارب ، وما منع منه منع منه ، وما اختلف فيه ، فهاهنا مثله ، وما جاز أن يكون رأس مال الشركة جاز أن يكون رأس مال المضاربة ، ولا يعتبر قبض رأس المال ، وتكفي مباشرته ، وقيل : يعتبر نطقه ( وإذا [ ص: 21 ] فسدت ) المضاربة ( فالربح لرب المال ) قال القاضي : هذا هو المذهب ; لأنه نماء ماله ، وإنما يستحق العامل بالشرط ، فإذا فسدت فسد الشرط ، فلم يستحق شيئا ( وللعامل الأجرة ) أي أجرة مثله ، نص عليه ; لأن عمله إنما كان في مقابلة المسمى ، فإذا لم تصح التسمية وجب رد عمله عليه ، وذلك متعذر ، فوجب له أجرة المثل ، كما لو اشترى شراء فاسدا ، فقبضه ، وتلف أحد العوضين في يد قابضه ، فيجب رد بدله ، وسواء ظهر في المال ربح ، أو لا ( وعنه : له الأقل من الأجرة أو ما شرط له من الربح ) لأنه إن كان الأقل الأجرة فهو لا يستحق غيرها لبطلان الشرط ، وإن كان الأقل المشروط فهو قد رضي به ، واختار الشريف أبو جعفر أن الربح بينهما على ما شرطاه ، واحتج بأن أحمد قال : إذا اشتركا في العروض قسم الربح على ما شرطاه ، فأثبت فيها ذلك مع فسادها ، ورد بأن كلامه محمول على صحة الشركة بالعروض ، والتصرف فيها صحيح مستندا إلى الإذن كالوكيل لا يقال لو اشترى شراء فاسدا ثم تصرف فيه لم ينفذ مع أن البائع قد أذن له في التصرف ; لأن المشتري يتصرف من جهة الملك لا بالإذن .

التالي السابق


الخدمات العلمية