صفحة جزء
[ المسألة الثانية ]

[ حكم الجماع في الصوم ناسيا ]

وأما المسألة الثانية - وهو إذا جامع ناسيا لصومه - : فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان : لا قضاء عليه ولا كفارة . قال مالك : عليه القضاء دون الكفارة . وقال أحمد وأهل الظاهر عليه القضاء والكفارة .

وسبب اختلافهم في قضاء الناسي : معارضة ظاهر الأثر في ذلك للقياس .

وأما القياس : فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة . فمن شبهه بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص على ناسي الصلاة .

وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس : فهو ما خرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " . وهذا الأثر يشهد له عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .

ومن هذا الباب اختلافهم فيمن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم ظهرت الشمس بعد ذلك ، هل عليه قضاء أم لا ؟ وذلك أن هذا مخطئ ، والمخطئ والناسي حكمهما واحد ، فكيفما قلنا فتأثير النسيان في إسقاط القضاء بين - والله أعلم - ، وذلك أنا إن قلنا : إن الأصل هو أن لا يلزم الناسي قضاء حتى يدل الدليل [ ص: 254 ] على ذلك وجب أن يكون النسيان لا يوجب القضاء في الصوم ، إذ لا دليل هاهنا على ذلك بخلاف الأمر في الصلاة ، وإن قلنا : إن الأصل هو إيجاب القضاء حتى يدل الدليل على رفعه عن الناسي، فقد دل الدليل في حديث أبي هريرة على رفعه عن الناسي ، اللهم إلا أن يقول قائل : إن الدليل الذي استثنى ناسي الصوم من ناسي سائر العبادات التي رفع عن تاركها الحرج بالنص هو قياس الصوم على الصلاة ، ولكن إيجاب القضاء فيه ضعف ، وإنما القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد .

وأما من أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا فضعيف ، فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بين في الشرع ، والكفارة من أنواع العقوبات ، وإنما أصارهم إلى ذلك أخذهم بمجمل الصفة المنقولة في الحديث - أعني : من أنه لم يذكر فيه أنه فعل ذلك عمدا ولا نسيانا - ، لكن من أوجب الكفارة على قاتل الصيد نسيانا لم يحفظ أصله في هذا، مع أن النص إنما جاء في المتعمد ، وقد كان يجب على أهل الظاهر أن يأخذوا بالمتفق عليه ، وهو إيجاب الكفارة على العامد إلى أن يدل الدليل على إيجابها على الناسي ، أو يأخذوا بعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " حتى يدل الدليل على التخصيص ، ولكن كلا الفريقين لم يلزم أصله ، وليس في مجمل ما نقل من حديث الأعرابي حجة . ومن قال من أهل الأصول إن ترك التفصيل في اختلاف الأحوال من الشارع بمنزلة العموم في الأقوال فضعيف ، فإن الشارع لم يحكم قط إلا على مفصل ، وإنما الإجمال في حقنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية