صفحة جزء
[ الأيام المنهي عن الصيام فيها ]

أما الأيام المنهي عنها : فمنها أيضا متفق عليها ، ومنها مختلف فيها .

أما المتفق عليها : فيوم الفطر ، ويوم الأضحى ; لثبوت النهي عن صيامهما .

وأما المختلف فيها : فأيام التشريق ، ويوم الشك ، ويوم الجمعة ، ويوم السبت ، والنصف الآخر من شعبان ، وصيام الدهر .

أما أيام التشريق : فإن أهل الظاهر لم يجيزوا الصوم فيها . وقوم أجازوا ذلك فيها . وقوم كرهوه ، وبه قال مالك ، إلا أنه أجاز صيامها لمن وجب عليه الصوم في الحج - وهو المتمتع - ، وهذه الأيام هي : الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر .

والسبب في اختلافهم : تردد قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إنها أيام أكل وشرب " بين أن يحمل على الوجوب أو على الندب ، فمن حمله على الوجوب قال : الصوم يحرم ، ومن حمله على الندب قال : الصوم مكروه . ويشبه أن يكون من حمله على الندب إنما صار إلى ذلك ، وغلبه على الأصل الذي هو حمله على الوجوب ؛ لأنه رأى أنه إن حمله على الوجوب عارضه حديث أبي سعيد الخدري الثابت بدليل الخطاب ، وهو أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يصح الصيام في يومين يوم الفطر من رمضان ويوم النحر " فدليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيه ، وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه .

وأما يوم الجمعة : فإن قوما لم يكرهوا صيامه ، ومن هؤلاء مالك وأصحابه وجماعة ، وقوم كرهوا صيامه إلا أن يصام قبله أو بعده .

[ ص: 259 ] والسبب في اختلافهم : اختلاف الآثار في ذلك :

فمنها : حديث ابن مسعود : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال : وما رأيته يفطر يوم الجمعة " وهو حديث صحيح .

ومنها : حديث جابر : " أن سائلا سأل جابرا أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم ؟ قال : نعم ورب هذا البيت " خرجه مسلم .

ومنها : حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " خرجه أيضا مسلم .

فمن أخذ بظاهر حديث ابن مسعود ، أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا ، ومن أخذ بظاهر حديث جابر كرهه مطلقا ، ومن أخذ بحديث أبي هريرة جمع بين الحديثين - أعني : حديث جابر وحديث ابن مسعود - .

وأما يوم الشك : فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد إلا ما حكيناه عن ابن عمر .

واختلفوا في تحري صيامه تطوعا ، فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار : " من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم " . ومن أجازه فلأنه قد روي أنه - عليه الصلاة والسلام - صام شعبان كله ، ولما قد روي من أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لا تتقدموا رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم فليصمه " . وكان الليث بن سعد يقول : إنه إن صامه على أنه من رمضان ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه ، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نية الفرض .

وأما يوم السبت : فالسبب في اختلافهم فيه ، اختلافهم في تصحيح ما روي من أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " خرجه أبو داود ، قالوا : والحديث منسوخ ، نسخه حديث جويرية بنت الحارث : " أن النبي - عليه الصلاة والسلام - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال : صمت أمس ؟ فقالت : لا ، فقال : تريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا ، قال : فأفطري " .

وأما صيام الدهر : فإنه قد ثبت النهي عن ذلك . لكن مالكا لم ير بذلك بأسا ، وعسى رأى النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض .

وأما صيام النصف الآخر من شعبان : فإن قوما كرهوه ، وقوما أجازوه . فمن كرهوه فلما روي من أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان " . ومن أجازه فلما روي عن أم سلمة قالت : " ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان " . ولما روي عن ابن عمر قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن شعبان برمضان " . وهذه الآثار خرجها الطحاوي .

وأما الركن الثاني وهو النية : فلا أعلم أن أحدا لم يشترط النية في صوم التطوع ، وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم .

وأما الركن الثالث - وهو الإمساك عن المفطرات - : فهو بعينه الإمساك الواجب في الصوم المفروض ، والاختلاف الذي هنالك لاحق هاهنا .

وأما حكم الإفطار في التطوع : فإنهم أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء .

[ ص: 260 ] واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا : فأوجب مالك وأبو حنيفة عليه القضاء ، وقال الشافعي وجماعة : ليس عليه قضاء .

والسبب في اختلافهم : اختلاف الآثار في ذلك ، وذلك أن مالكا روى أن حفصة وعائشة زوجي النبي - عليه الصلاة والسلام - أصبحتا صائمتين متطوعتين ، فأهدى لهما الطعام فأفطرتا عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا عليكما ، اقضيا يوما مكانه " .

وعارض هذا حديث أم هانئ قالت : " لما كان يوم الفتح فتح مكة ، جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأم هانئ عن يمينه ، قالت : فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب ، فناولته فشرب منه ، ثم ناوله أم هانئ ، فشربت منه ، قالت : يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة ، فقال لها - عليه الصلاة والسلام - : أكنت تقضين شيئا ؟ قالت : لا ، قال : فلا يضرك إن كان تطوعا " . واحتج الشافعي في هذا المعنى بحديث عائشة أنها قالت : " دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أنا خبأت لك خبئا ، فقال : أما إني كنت أريد الصيام ولكن قربيه " . وحديث عائشة وحفصة غير مسند .

ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر ، هو تردد الصوم التطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع ، وذلك أنهم أجمعوا على أن من دخل في الحج والعمرة متطوعا يخرج منهما أن عليه القضاء ، وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت ، وزعم من قاس الصوم على الصلاة أنه أشبه بالصلاة منه بالحج ; لأن الحج له حكم خاص في هذا المعنى ، وهو أنه يلزم المفسد له المسير فيه إلى آخره ، وإذا أفطر في التطوع ناسيا فالجمهور على أن لا قضاء عليه ، وقال ابن علية : عليه القضاء قياسا على الحج ، ولعل مالكا حمل حديث أم هانئ على النسيان ، وحديث أم هانئ خرجه أبو داود ، وكذلك خرج حديث عائشة بقريب من اللفظ الذي ذكرناه ، وخرج حديث عائشة وحفصة بعينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية