صفحة جزء
المسألة الثالثة

واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست أقساما بشيء ، وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط ، مثل أن يقول القائل : فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله ، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر أو امرأتي طالق أنها تلزم في القرب ، وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع ، مثل الطلاق والعتق . واختلفوا هل فيها كفارة أم لا ؟ فذهب مالك إلى أن لا كفارة فيها ، وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد . وذهب الشافعي ، وأحمد ، وأبو عبيد وغيرهم إلى أن هذا الجنس من الأيمان فيها الكفارة إلا الطلاق والعتق . وقال أبو ثور : يكفر من حلف بالعتق . وقول الشافعي مروي عن عائشة .

وسبب اختلافهم : هل هي يمين أو نذر ؟

[ ص: 337 ] فمن قال : إنها يمين أوجب فيها الكفارة ، لدخولها تحت عموم قوله تعالى : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) الآية .

ومن قال : إنها من جنس النذر ( أي من جنس الأشياء التي نص الشرع على أنه إذا التزمها الإنسان لزمته ) قال : لا كفارة فيها ، لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها أيمانا ، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع ، والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا ، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة ، وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين .

فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي ؟ وهل حكمها حكم الأيمان ؟ ففيه نظر ، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال : " كفارة النذر كفارة يمين " . وقال تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله : ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون الشرط ولا يمين يمينا ، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى ، إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق ، فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين ، وأن حكمه حكم اليمين .

وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم من مثل هذه الأقاويل ( أعني : الخارجة مخرج الشرط ) إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك ، وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر ، ولا بأيمان فترفعها الكفارة ، فلم يوجبوا على من قال : إن فعلت كذا وكذا فعلي المشي إلى بيت الله مشيا ولا كفارة ، بخلاف ما لو قال : علي المشي إلى بيت الله ، لأن هذا نذر باتفاق ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " .

فسبب هذا الخلاف في هذه الأقاويل التي تخرج مخرج الشرط هو : هل هي أيمان أو نذور ؟ أو ليست أيمانا ولا نذورا ؟ فتأمل هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية