صفحة جزء
[ شرط المقتول ]

وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول ، فهو أن يكون مكافئا لدم القاتل . والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية والواحد والكثير ، واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص . واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع .

أما الحر إذا قتل العبد عمدا ، فإن العلماء اختلفوا فيه ، فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور : لا يقتل الحر بالعبد ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : يقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه ، وقال قوم : يقتل الحر بالعبد سواء كان عبد القاتل أو عبد غير القاتل ، وبه قال النخعي .

فمن قال : لا يقتل الحر بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد ) ، ومن قال : يقتل الحر بالعبد احتج بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " .

[ ص: 720 ] فسبب الخلاف معارضة العموم لدليل الخطاب ، ومن فرق فضعيف .

ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر ، وكذلك الأنقص بالأعلى .

ومن الحجة أيضا لمن قال : يقتل الحر بالعبد ما رواه عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل عبده قتلناه به " ومن طريق المعنى قالوا : ولما كان قتله محرما كقتل الحر ، وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر .

وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي ، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :

1 - فقال قوم : لا يقتل مؤمن بكافر ، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة .

2 - وقال قوم : يقتل به ، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى .

3 - وقال مالك والليث : لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة ( وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله ) .

فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة ، والأشتر : هل عهد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدا لم يعهده إلى الناس قال : لا ، إلا ما في كتابي هذا ، وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " خرجه أبو داود .

وروي أيضا عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقتل مؤمن بكافر " واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن .

وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثارا منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني ، قال : " قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة ، وقال : أنا أحق من وفى بعهده " ورووا ذلك عن عمر ، قالوا : وهذا مخصص لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يقتل مؤمن بكافر " أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد ، وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني ، وما رووا من ذلك عن عمر .

وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي ، قالوا : فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه ، فسبب الخلاف تعارض الآثار والقياس .

وأما قتل الجماعة بالواحد ، فإن جمهور فقهاء الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد ، منهم مالك وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، وأحمد ، وأبو ثور وغيرهم ، سواء كثرت الجماعة أو قلت ، وبه قال عمر حتى روي أنه قال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا . وقال داود وأهل الظاهر : لا تقتل الجماعة بالواحد ، وهو قول ابن الزبير ، وبه قال الزهري ، وروي عن جابر . وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد ( أعني : إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد ) ، وقال مالك ، والشافعي : تقطع الأيدي باليد ، وفرقت الحنفية بين الأنفس والأطراف ، فقالوا : تقتل الأنفس بالنفس ، ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد ، [ ص: 721 ] وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء .

فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة ، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب ) وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة ، لكن للمعترض أن يقول : إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحد ، فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن ، فليس يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس .

وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) .

وأما قتل الذكر بالأنثى ، فإن ابن المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع ، إلا ما حكي عن علي من الصحابة ، وعن عثمان البتي أنه إذا قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء المرأة نصف الدية . وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري ، أنه لا يقتل الذكر بالأنثى ، وحكاه الخطابي في معالم السنن ، وهو شاذ ، ولكن دليله قوي لقوله تعالى : ( والأنثى بالأنثى ) وإن كان يعارض دليل الخطاب هاهنا للعموم الذي في قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) لكن يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا ، وهي مسألة مختلف فيها ( أعني : هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ ) ، والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو النظر إلى المصلحة العامة .

واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن ، فقال مالك : لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه ، فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل ، وكذلك الجد عنده مع حفيده . وقال أبو حنيفة والشافعي ، والثوري : لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد ، وبه قال جمهور العلماء .

وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : " لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد " . وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين .

وسبب اختلافهم ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلا من بني مدلج يقال له : قتادة حذف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه ، فنزي جرحه فمات ، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له ، فقال له عمر : اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك ، لما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ، ثم قال : أين أخو المقتول ، فقال : ها أنا ذا ، قال : خذها ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس لقاتل شيء " .

فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا محضا ، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب . وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد .

وأما مالك فرأى ما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد ، ولم يتهمه إذ كان ليس بقتل غيلة ، فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة ، إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى ، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي ، لقوة المحبة التي بين الأب والابن . والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن ، والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد ، فهذا هو القول في الموجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية