صفحة جزء
[ ص: 468 ]

الفصل الرابع

في اللغات

وهي جمع لغة ، وهي : الألفاظ الدالة على المعاني النفسية ، واختلافها لاختلاف أمزجة الألسنة ، لاختلاف الأهوية وطبائع الأمكنة .


" الفصل الرابع "

يعني من فصول المقدمة " في اللغات ، وهي - يعني اللغات - جمع لغة " . قال الجوهري : اللغة أصلها : لغي أو لغو .

قلت : أما احتمال كونها من ذوات الياء أو الواو ، فهو متجه ظاهر ، وأما كونها على مثال فعل - بضم الفاء وسكون العين بدون تاء التأنيث - ففيه نظر ، والأشبه أن أصلها لغية ، كدمية ، أو لغوة ، كعروة ، وجمعها لغى ، مثل برة ويرى ولغات مثل : ثبة وثبات ، وكرة وكرات .

واعلم أن الكلام في اللغات هو كالمدخل إلى أصول الفقه من جهة أنه أحد مفردات مادته ، وهي الكلام والعربية وتصور الأحكام الشرعية .

فأصول الفقه متوقفة على معرفة اللغة لورود الكتاب والسنة بهما ، اللذين هما أصول الفقه وأدلته ، فمن لا يعرف اللغة لا يمكنه استخراج الأحكام من الكتاب [ ص: 469 ] والسنة .

وقد كان ينبغي بموجب هذا أن يقدم الكلام في اللغات على غيره من الفصول المتقدمة تقديم مادة الشيء عليه ، لكن قد بينت أني أقررت ترتيب أصل هذا " المختصر " على حاله غالبا .

قوله : " وهي " - يعني اللغة - هي " الألفاظ الدالة على المعاني النفسية " .

يعني المتكلم يقوم بنفسه معاني ، بمعنى أنه يتصورها كتصوره لمعنى قيام زيد ، وضرب عمرو ، وحسن العلم ، وقبح الجهل . فيعبر عن تلك المعاني بألفاظ تدل عليها ، كقوله : قام زيد ، وضرب عمرو ، والعلم حسن ، والجهل قبيح . فتلك الألفاظ الدالة على تلك المعاني هي اللغة .

قوله : " واختلافها لاختلاف أمزجة الألسنة ، لاختلاف الأهوية وطبائع الأمكنة " .

أي : واختلاف اللغات إلى عربي وأعجمي وغير ذلك من أصناف اللغات علته وسببه اختلاف أمزجة الألسنة ، واختلاف أمزجة الألسنة علته وسببه اختلاف الأهوية وطبائع الأمكنة ، فإذا غلب البرد مثلا على مكان ، برد هواؤه ، وطبع البرد التكثيف والتثقيل ، لأن العنصرين الباردين ، وهما : الماء والأرض ، ثقيلان كثيفان . والماء أشدهما بردا ، والأرض أشدهما كثافة ، فيغلب الثقل على ألسنة أهل ذلك البلد ، فيثقل النطق على ألسنتهم ، ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة ، فيجيء النطق بها ثقيلا ، كالعجمي ، والتركي ، وغيرهما . وإذا غلب الحر على مكان ، سخن هواؤه ، وطبع الحرارة التخفيف والتحليل والتلطيف ، فتغلب الخفة على ألسنة [ ص: 470 ] أهل ذلك المكان ، فيخف النطق على ألسنتهم ، ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة ، فيجيء النطق بها خفيفا سمحا سهلا ، كاللغة العربية . ولهذا كانت أفصح اللغات وأحسنها وأشرفها ، وحصل الإعجاز والتحدي بكلام الله تعالى النازل بها دون كلامه النازل بغيرها ، مع أنه قد كان في قدرة الله سبحانه وتعالى أن يعجز أهل كل لسان بما ينزله من كلامه بذلك اللسان . وهذا التقرير أشار إليه الأطباء ، منهم : صاحب " الإقناع " .

التالي السابق


الخدمات العلمية