صفحة جزء
[ ص: 411 ] التاسعة : ما ثبت في حقه عليه السلام من الأحكام ، أو خوطب به ، نحو : ياأيها المزمل [ المزمل : 1 ] ، تناول أمته ، وما توجه إلى صحابي تناول غيره حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، ما لم يقم دليل مخصص عند القاضي ، وبعض المالكية والشافعية ، وقال أبو الخطاب والتميمي وبعض الشافعية : يختص الحكم بمن توجه إليه إلا أن يعم .

لنا : قوله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج [ الأحزاب : 37 ] ، وأيضا خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، دل على تناول الحكم لهم لولا التخصيص ، وإلا كان عبثا ، وقوله عليه السلام : خطابي للواحد ، خطابي للجماعة ، وأجمع الصحابة على الرجوع في القضايا العامة إلى قضاياه الخاصة ، ولولا صحة ما قلناه ، لكان خطأ منهم لجواز اختصاص قضاياه بمجالها ، وقال صلى الله عليه وسلم : إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي . في جواب قولهم له : لست مثلنا ; فدل على التساوي .

قالوا : أمر السيد بعض عبيده يختص به دون باقيهم ، وأمر الله عز وجل بعبادة لا يتناول غيرها ، والعموم لا يفيد الخصوص بمطلقه ، فكذا العكس ، وكأن الخلاف لفظي ، إذ هؤلاء يتمسكون بالمقتضى اللغوي ، والأولون بالواقع الشرعي .


المسألة " التاسعة : ما ثبت في حقه " يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، من الأحكام أو " خوطب به " من الكلام " نحو : ياأيها المزمل [ المزمل : 1 ] ، ياأيها المدثر [ المدثر : 1 ] ، تناول أمته " ، أي : ثبت في حقهم منه ما ثبت في حقه ، وكذلك " ما توجه إلى صحابي من الخطاب " ، تناول غيره " من المكلفين " ، الصحابة وغيرهم ، " حتى النبي ، صلى الله عليه وسلم " ، أي : حتى إنه يتناول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، " ما لم يقم دليل مخصص " ، يعني للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، بما ثبت في حقه [ ص: 412 ] كوجوب السواك والضحى والوتر ، أو بما خوطب به ، نحو : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، أو للصحابي بما توجه إليه دون غيره ، كقوله عليه السلام لأبي بردة : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك .

وحاصل الكلام : إنه إن قام دليل مخصص ، اختص الحكم بمن دل عليه الدليل ; وإلا كان الحكم بما ثبت في حقه عليه السلام ، أو خوطب به هو ، أو بعض الصحابة ، عاما لجميع المكلفين " عند القاضي ، وبعض المالكية ، والشافعية . [ ص: 413 ] وقال أبو الخطاب " ، وأبو الحسن التميمي من أصحابنا ، وبعض الشافعية : يختص الحكم بمن توجه إليه ، من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو غيره ، إلا بمعمم ، أي : إلا أن يقوم دليل كونه عاما للجميع ; فهؤلاء عكس الأولين; لأن هؤلاء يقولون : يخص الحكم من توجه إليه إلا لدليل معمم ، وأولئك يقولون : يعم الحكم من توجه إليه وغيره ، إلا لدليل مخصص .

- قوله : " لنا : قوله تعالى : زوجناكها " إلى آخره . هذا حجة القائلين بالتعميم ، وهو من وجوه :

أحدها : قوله عز وجل : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ الأحزاب : 37 ] ; فأخبر سبحانه وتعالى ، أنه إنما أباح لنبيه زوجة ابنه بالتبني ، ليتأسى به المؤمنون ، رفعا للحرج عنهم ; فلولا أن ما ثبت في حقه يتناول غيره ، لكان هذا التعليل عبثا .

ولقائل أن يقول : التعليل المذكور في الآية ، هو دليل التعميم ، والنزاع إنما هو عند عدم دليل التعميم .

الوجه الثاني : قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، ووجه دلالته أنه لولا تناول ما ثبت في حقه أمته ; لكان هذا التخصيص عبثا غير مفيد ; لأن اختصاصه بالحكم على هذا التقدير ، يكون ثابتا بالوضع أو [ ص: 414 ] العرف ; فيبقى قوله عز وجل : خالصة لك من دون المؤمنين غير مفيد فائدة زائدة ; فيكون وجوده كعدمه ، وهو عبث ، محال على الله عز وجل .

فإن قيل : هو تأكيد لما اقتضاه الخطاب له من الاختصاص .

قلنا : حملنا له على التأسيس وهو إفادة التخصيص أولى ، لاستقلاله بالفائدة .

الوجه الثالث : قوله عليه السلام : خطابي للواحد خطابي للجماعة ، ويروى : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ، وهو نص في أن ما توجه إلى صحابي تناول غيره ، ومما يناسب هذا ويقويه ، ما روي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه كان لا يمس جسده جسد امرأة ، إلا زوجة أو ملك يمين ، وكان النساء عند المبايعة ربما أردن مصافحته للبيعة فيمتنع ، ويقول : قد بايعتكن . ويقول : إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لألف امرأة . أو نحو من هذا ، والله [ ص: 415 ] تعالى أعلم بالصواب .

الوجه الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على الرجوع في قضاياهم العامة إلى قضايا النبي صلى الله عليه وسلم ، الخاصة ، كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة ماعز ، وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك ، وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق ، وفي السكنى والنفقة إلى حديث فاطمة بنت قيس ، وفريعة بنت مالك .

قال الشيخ أبو محمد : وإلى حديث صفية الأنصارية ، في سقوط طواف الوداع عن الحائض .

[ ص: 416 ] قلت : وإنما هي صفية بنت حيي ، أم المؤمنين ، كذا رواه الترمذي وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها . وإذا ثبت هذا ; فلولا أن ما توجه إلى بعض الأمة يتناول غيره ، لكان ذلك خطأ من الصحابة ، حيث رجعوا في أحكامهم العامة إلى أحكامه الخاصة ، لجواز اختصاص قضاياه بمحالها ، التي وردت فيها ، بل لوجوب ذلك عند الخصم ; فيكون الخطأ أشد وأشنع ، لكن الصحابة أجمعوا على ذلك ، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لهم بالهداية ، والإجماع مطلقا بالعصمة من الخطأ ، وذلك يقتضي عموم ما ذكرناه من عموم الحكم ، وإن توجه إلى واحد .

[ ص: 417 ] الوجه الخامس : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال : تدركني الصلاة وأنا جنب ، أفأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ; فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ; فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .

وروي عنه في القبلة للصائم ، مثل ذلك ، وهو يدل على تساويه وأمته في الأحكام ، وإذا استووا في الأحكام ، تناوله ما توجه إليهم ، بمقتضى التساوي .

قوله : " قالوا : أمر السيد بعض عبيده " ، إلى آخره . هذا دليل القائلين بعدم التعميم إلا لدليل ، وهو من وجوه :

أحدها : أن السيد إذا أمر بعض عبيده ، اختص موجب الأمر به ، دون غيره منهم ، في حكم اللغة ; فكذلك الله سبحانه وتعالى مع عبيده ، لا يتجاوز أمره لبعضهم إلى غيره كذلك .

الوجه الثاني : أن الله عز وجل إذا أمر بعبادة ، كالصلاة والصيام ، لا يتناول الأمر بمطلقه عبادة أخرى غيرها ; فكذلك إذا أمر عبدا ، لا يتناول الأمر بمطلقه عبدا آخر غيره .

الوجه الثالث : أن لفظ العموم لا يفيد الخصوص بمطلقه ، ولا يحمل [ ص: 418 ] عليه ; فكذا العكس ، وهو أن لفظ الخصوص لا يفيد العموم بمطلقه ، ولا يحمل عليه .

- قوله : " وكأن الخلاف لفظي " ، أي : يشبه أن النزاع بينهم لفظي ، إذ هؤلاء ، يعني القائلين بأن الحكم يخص من توجه إليه ، يتمسكون بمقتضى اللغة لذلك ، والأولون وهم القائلون بأنه يعم من توجه إليه ، وغيره يتمسكون بالواقع الشرعي ; لأن أدلتهم كلها وقائع شرعية خاصة ، عدي حكمها إلى غيرها ، كما سبق .

وحينئذ يصير التقدير : أن اللغة تقتضي أن الخطاب لواحد معين يختص به ، ولا خلاف فيه بينهم ، والواقعة الشرعية الخاصة ، إذا قام دليل عمومها ، عمت ، ولا خلاف أيضا فيه بينهم ; فعاد النزاع كما قلنا لفظيا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية