صفحة جزء
[ ص: 568 ] الخامس : المفهوم لأنه دليل كالنص : " كتخصيص : " في أربعين شاة شاة " ، بمفهوم : " في سائمة الغنم الزكاة . . "

السادس : فعله صلى الله عليه وسلم ، كتخصيص : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] ، بمباشرته الحائض دون الفرج متزرة ، ويمكن منعه حملا للقربان على نفس الوطء كناية . وخصص قوم عموم : ( الزانية والزاني فاجلدوا ) بتركه جلد ماعز .

السابع : تقريره صلى الله عليه وسلم ، على خلاف العموم مع قدرته على المنع لأنه كصريح إذنه ، إذ لا يجوز له الإقرار على الخطأ لعصمته .

الثامن : قول الصحابي إن جعل حجة كالقياس ، وأولى .

التاسع : قياس النص الخاص يقدم على عموم نص آخر عند أبي بكر ، والقاضي ، وهو قول الشافعي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين خلافا لأبي إسحاق بن شاقلا وبعض الفقهاء .

احتج الأول : حكم القياس حكم أصله ; فخص العام .

الثاني : النص أصل فلا يقدم القياس الذي هو فرع عليه ، ولأن العام يفيد من الظن أكثر من القياس ، ولأن معاذا قدم السنة على القياس ، وقيل : يخص بجلي القياس دون خفيه لقوته ، وهو أولى ، ثم الجلي قياس العلة ، وقيل : ما يظهر فيه المعنى نحو : " لا يقضي القاضي وهو غضبان . . "

والخفي : قياس الشبه ، وقال عيسى : يخص بالقياس المخصوص دون غيره . وحكي عن أبي حنيفة كما سبق .


" الخامس " : من مخصصات العموم : " المفهوم ; لأنه دليل شرعي كالنص " ، وكما أن النص يخصص العموم كذلك المفهوم ، وذلك " كتخصيص " قوله عليه [ ص: 569 ] السلام : " في أربعين شاة شاة " ، بمفهوم قوله عليه السلام : " في سائمة الغنم الزكاة " . فإن الأول اقتضى بعمومه وجوب الزكاة في الأربعين ، سائمة كانت أو غير سائمة ، والثاني خص بمفهومه غير السائمة ; فلا زكاة فيها .

" السادس " : من مخصصات العموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، " كتخصيص " قوله عز وجل في الحيض : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] ، بكونه عليه السلام كان يباشر الحائض دون الفرج متزرة ، كما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأمرني فأتزر ، ثم يباشرني وأنا حائض . فإن الآية اقتضت عموم عدم القربان في الفرج وغيره ، وفعله صلى الله عليه وسلم ، خص النهي بالفرج ، وأباح القربان لما سواه .

قوله : " ويمكن منعه حملا للقربان على نفس الوطء كناية " ، أي : يمكن منع كون هذا الفعل مخصصا لهذه الآية بأن يحمل قوله عز وجل : ( ولا تقربوهن ) ، على معنى : لا تطئوهن في الفرج ، وكنى عن ذلك بالقربان ، وهي كناية ظاهرة فيه ، وحينئذ لا عموم في الآية ; فلا تخصيص بالفعل ، بل يكون بيانا مرسلا للكناية المذكورة ، ودفعا لما يتوهم من إرادة غير الوطء .

[ ص: 570 ] قوله : " وخصص قوم عموم : ( الزانية والزاني فاجلدوا ) [ النور : 2 ] " ، إلى آخره .

هذا مثال آخر عند بعض الناس لتخصيص العموم بالفعل أو ما يشبه الفعل .

وبيانه أن قوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) [ النور : 2 ] ، عام في الثيب والبكر ، فلما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ، ماعزا ، وترك جلده ، دل على أن الجلد مختص بالبكر دون الثيب ; فكان هذا تخصيصا للنص العام بفعله عليه الصلاة والسلام أو بمعنى فعله وهو ترك الجلد . وهذه من مسائل الخلاف ، أعني أن الزاني الثيب : هل يجلد مع الرجم أم لا ؟ والصحيح من مذهبنا أنه يجلد خلافا للشافعي .

" السابع " : من مخصصات العموم : تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ، على خلافه ، أعني : على خلاف العموم " مع قدرته على المنع " ، من خلافه ; لأن إقراره كصريح إذنه ، إذ لا يجوز له الإقرار على الخطأ لعصمته ، كما سبق في أول الكلام في السنة من أنها قول وفعل وإقرار على فعل أو ترك ، ثم إذا أقر واحدا من الأمة على خلاف العموم ، ثبت ذلك في حق غيره ، لما سبق من أن ما ثبت في حق واحد ، ثبت في حق الجميع ما لم يخص به ذلك الواحد .

[ ص: 571 ] مثال ذلك تقديرا : لو ورد النهي عاما عن شرب الخمر ، ثم رأيناه أقر بعض الناس على نوع منها ، أو مقدار يسير ، أو على شرب النبيذ ، استدللنا بذلك على إباحة ما أقر عليه ، وهذا ذكرناه مثالا تقديريا ، وإن لم يقع منه شيء .

- " الثامن " : من مخصصات العموم " قول الصحابي " إذا جعل حجة يقدم على القياس ; فإنه يخص به العموم ; لأن القياس يخص به العموم ; فقول الصحابي المقدم عليه أولى أن يخص به . وهذا معنى قوله : " قول الصحابي إن جعل حجة كالقياس وأولى " .

فإن قيل : الصحابي يترك مذهبه للعموم ، كترك ابن عمر رضي الله عنهما مذهبه لحديث رافع بن خديج في المخابرة ; فغير الصحابي أولى بترك قوله للعموم ، وإذا وجب ترك قول الصحابي للعموم ، لم يجز أن يخص به العموم ; لأن التخصيص به ينافي تركه .

وأجاب الشيخ أبو محمد بأن ابن عمر رضي الله عنهما لم يترك مذهبه للعموم ، بل لنص عارضه .

قلت : فيكون العموم مؤكدا لذلك النص ; فأما من لا يرى قول الصحابي حجة ; فلا يجيز تخصيص العام به ; لأن التخصيص تقديم الخاص ، وما ليس بحجة لا يجوز تقديمه .

- " التاسع " : من مخصصات العموم " قياس النص الخاص يقدم على عموم نص آخر " ; فيخص به " عند أبي بكر والقاضي " من أصحابنا ، " وهو قول [ ص: 572 ] الشافعي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين ، خلافا لأبي إسحاق بن شاقلا وبعض الفقهاء " ، حيث قالوا : لا يخص العموم بقياس النص الخاص .

مثال ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال : ( وأحل الله البيع ) [ البقرة : 275 ] ، وهو عام في جواز كل بيع ، ثم ورد النص بتحريم الربا في البر بعلة الكيل ، وقياسه تحريم الربا في الأرز ; فهو قياس نص خاص يخص به عموم إحلال البيع . وكذا تحريم النبيذ بعلة الإسكار قياسا على الخمر ، هو قياس نص خاص ; فيخص به عموم قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير ) [ الأنعام : 145 ] الآية .

قوله : " الأول " ، أي : احتج الأول وهو القائل بتخصيص العموم بقياس النص الخاص ، بأن " حكم القياس حكم أصله " ، الذي هو النص الخاص ، وكما أن النص الخاص يخص العموم ; فكذا قياسه الذي حكمه حكمه ; فكما أن النص على تحريم الربا في البر خص عموم البيع ; فكذا قياس البر في الأرز ، وكما أن النص على تحريم الخمر خص عموم : ( أجد في ما أوحي إلي محرما ) [ ص: 573 ] [ الأنعام : 145 ] ; فكذا قياس الخمر على النبيذ يكون مخصصا له لأنه مساو له كأصله الذي هو النص .

قوله : " الثاني " ، أي : احتج الثاني وهو القائل بأن العام لا يخص بقياس النص الخاص بوجوه :

أحدها : أن النص الذي هو العام أصل ، والقياس فرع ; فلو خص العام به ، لقدم الفرع على الأصل ، وهو غير جائز .

الوجه الثاني : أن العام يفيد من الظن أكثر مما يفيده القياس منه ، لما مر في تقديم خبر الواحد على القياس ، وحينئذ لا يجوز تقديم الأقل فائدة على الأكثر فائدة .

الوجه الثالث : أن معاذا في حديثه المشهور قدم السنة على القياس ، وهو عام فيما إذا كان القياس أخص أو أعم ، وذلك يقتضي تقديم العام على قياس النص الخاص ; فلا يخص به النص العام .

قلت : ويجاب عن هذه الوجوه :

أما عن الأول ; فبأن الممتنع إنما هو تقديم الفرع على أصله ، والقياس هاهنا ليس فرعا للعام ، بل للنص الخاص الذي هو أقوى من العام ، ولا يمتنع أن يكون فرع الأصل القوي أقوى من الأصل الضعيف .

وأما عن الثاني ; فلا نسلم أن العام يفيد من الظن أكثر مما يفيده القياس ، وإنما ذلك في النص الخاص مع القياس ، كحديث نقض الوضوء [ ص: 574 ] بمس الذكر ، وأكل لحم الجزور ، والكلام في تقديم خبر الواحد على القياس في ذلك لا فيما نحن فيه الآن .

وأما عن الثالث ; فبأن حديث معاذ إن ثبت ; فاستدلالكم بعمومه ; فهو إثبات لتقديم العام بالعام ، وهو مدرك ضعيف ، ثم هو محمول على ما إذا كان القياس مساويا للسنة في العموم والخصوص بما ذكرناه من الدليل . أما إذا كان القياس أخص ، كان الظن الحاصل منه أغلب فيقدم ; لأن تقديم الأقوى متعين كالعمومين أو القياسين إذا تقابلا .

قوله : " وقيل : يخص " أي : قال بعض الأصوليين : " يخص العام بجلي القياس دون خفيه " ، أي : بالقياس الجلي ، لقوته دون القياس الخفي لضعفه ، " وهو أولى " لما سبق من تقديم أقوى الظنين .

قوله : " ثم الجلي قياس العلة " ، إلى آخره ، أي : القائلون بتخصيص العام بالقياس الجلي دون الخفي اختلفوا في الجلي ما هو ؟

فقال بعضهم : هو قياس العلة ، وهو إثبات الحكم في الفرع بعلة الأصل ، كقياس الأمة على العبد في سراية العتق ، والنبيذ على الخمر في التحريم ، ونحوه .

وقيل : " ما يظهر فيه المعنى ، نحو " قوله عليه السلام : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " ; لأن المعنى المقتضي للمنع ظاهر فيه ، وهو اضطراب الخاطر ، [ ص: 575 ] وضعف إدراك الحكم لقوة الغضب ; فيلحق به ما وجد فيه ذلك المعنى من خوف أو ألم ونحوه .

وقيل : ما ينقض القضاء بخلافه .

قلت : هذا دور ; لأن القضاء ينقض لمخالفة القياس الجلي ، فإذا عرفنا الجلي بما ينقض القضاء بخلافه ، لزم الدور ، " والخفي قياس الشبه " وسيأتي بيان ذلك في القياس إن شاء الله تعالى .

" وقال عيسى ، - هو ابن أبان - : يخص بالقياس المخصوص دون غيره " ، أي : إنما يخص بالقياس العام المخصوص دون العام الذي ليس بمخصوص ، " وحكي - هذا - عن أبي حنيفة ، كما سبق " من قوله في تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، ووجهه : أن العام المخصوص يضعف ، ولهذا وقع الخلاف في كونه حجة أو حقيقة . وحينئذ يقوى القياس على تخصيصه بخلاف الباقي على عمومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية