صفحة جزء
[ ص: 690 ] لنا : أحكمت آياته ثم فصلت [ هود : 1 ] ، ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 19 ] ، وثم للتراخي ، وأخر بيان بقرة بني إسرائيل ، وأن ابن نوح ليس من أهله ، وأخر النبي صلى الله عليه وسلم ، بيان : ذوي القربى ، و آتوا الزكاة . و ولله على الناس ، وبين جبريل : أقيموا الصلاة بفعله في اليومين ، كل ذلك متأخر ، ولأن النسخ بيان زمني وهو متأخر ; فكذا هذا .

قالوا : الخطاب بما لا يفهم عبث ، وتجهيل في الحال كمخاطبة العربي بالعجمية ، وعكسه ، وإيجاب الصلاة بأبجد هوز ، وكإرادة البقر من قوله : في خمس من الإبل شاة .

قلنا : باطل بالمتشابه لا تفهم حقيقته ، وليس تجهيلا ، ولا عبثا ، فإن منع فقد بيناه .

فإن قيل : فائدته الانقياد الإيماني .

قلنا : وهذا الانقياد التكليفي وإيجاب الصلاة والزكاة ، وقطع السارق ونحوها يفيد ماهيات الأحكام ، وتفصل عند العمل بخلاف ما ذكرتم ; فإنه لا يفيد شيئا .


" لنا " على جوازه من الكتاب والسنة ، والاستدلال وجوه :

أحدها : قوله سبحانه وتعالى : الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت [ هود : 1 ] .

الثاني : قوله عز وجل : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 18 ، 19 ] .

فرتب تفصيل الآيات على أحكامها ، وبيان القرآن على القراءة بـ " ثم " وهي للتراخي ، وذلك يقتضي جواز تأخير البيان . وقد أجمعنا على عدم جوازه عن وقت الحاجة ، فلم يبق إلا جوازه إليها وهو المطلوب .

[ ص: 691 ] الثالث : أن الله سبحانه أمر بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام بذبح بقرة ، ثم أخر بيان صفتها حتى راجعوه فيها مرارا ، وذلك في قوله سبحانه وتعالى : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة الآيات إلى قوله عز وجل : فذبحوها وما كادوا يفعلون [ البقرة : 67 ، 71 ] ، وذلك يدل على ما ذكرناه .

الرابع : أن الله سبحانه ، أخر بيان أن ابن نوح ليس من أهله إلى وقت الحاجة ، وذلك أنه سبحانه قال لنوح عليه السلام : اصنع الفلك [ هود : 37 ] ، و احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك [ هود : 40 ] ، وهو عام في ابنه وغيره ، فلما أدرك ابن نوح الغرق ، خاطب نوح ربه عز وجل فيه بقوله : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق [ هود : 45 ] ، أي : وعدتني أن تنجي أهلي ، وإن ابني من أهلي ; فأنجه ; فقال الله سبحانه وتعالى : إنه ليس من أهلك [ هود : 46 ] ; فسكت نوح بعد أن سمع ما سمع خائفا مستغفرا ; فهذا تأخير البيان إلى وقت الحاجة .

الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخر بيان كثير من الأحكام إلى وقت الحاجة :

منها : بيان قوله سبحانه وتعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ الأنفال : 41 ] ، اقتضت الآية أن جميع الغنيمة لهذه الأصناف ، ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل ، وأن المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب ، دون بني نوفل وبني عبد شمس ، لمنعه لهم منها ، وقوله : إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام .

[ ص: 692 ] ومنها : قوله سبحانه وتعالى : وآتوا الزكاة [ الحج : 78 ] ، بين النبي صلى الله عليه وسلم ، أحكامها مؤخرا ، بقوله صلى الله عليه وسلم : في أربعين شاة شاة ، في سائمة الغنم الزكاة ، ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ونحو ذلك من تفاصيل أحكام الزكاة .

ومنها : قوله عز وجل : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] ، أخر بيانه بفعله ، وقوله : خذوا عني مناسككم . كما سبق .

ومنها : قوله سبحانه وتعالى : أقيموا الصلاة [ الأنعام : 72 ] ، بينه جبريل عليه السلام بفعله في اليومين ، كل ذلك متأخرا ، والإشارة باليومين ، إلى ما روى نافع بن جبير بن مطعم ، قال : أخبرني ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أمني جبريل عند البيت مرتين ; فصلى بي الظهر ، الحديث ، إلى أن قال : ثم التفت إلي جبريل ; فقال : يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين . رواه أبو داود [ ص: 693 ] والترمذي وحسنه .

السادس : أن النسخ بيان في الزمان ، وهذا بيان في الأعيان ، ثم قد وجب التأخير في النسخ ; فليجز التأخير ههنا ، وهذا حجة على من فرق بين النسخ وغيره في تأخير البيان ; لأن تأخير النسخ يوهم ثبوت الحكم في زمن ، ليس ثابتا فيه في نفس الأمر ، وتأخير تخصيص العام يوهم ثبوت الحكم في صورة التخصيص ، وليس ثابتا فيها في نفس الأمر ، وكلاهما محذور . وقد التزم الخصم أحدهما ; فيلزمه التزام الآخر .

قوله : " قالوا : الخطاب " ، إلى آخره . هذا حجة المانعين من تأخير البيان عن وقت الخطاب .

وتقريره : أن الخطاب بالمجمل بدون بيانه ; خطاب بما لا يفهم ، والخطاب بما لا يفهم عبث ، وتجهيل للسامع في الحال ، إذ لا يعلم ما المراد بالخطاب ، وفائدة الخطاب إنما هو إفادة المراد به ، فإذا لم يفد فائدته ، وجب أن يكون عبثا ممتنعا ، وصار ذلك كمخاطبة العربي بالعجمية ، ومخاطبة العجمي بالعربية ، وكما لو قال : أبجد هوز ، وقال : أردت به إيجاب الصلاة عليكم . أو قال : في خمس من الإبل شاة . وقال أردت بالإبل البقر ; فهذا كله وأشباهه غير جائز ، لعدم فائدته ; فكذلك الخطاب بالمجمل .

قوله : " قلنا : باطل " ، أي : ما ذكرتموه من أن الخطاب بما لا يفهم عبث ; فلا يجوز ، باطل بمتشابه القرآن ، كالحروف المقطعة وغيرها على ما سبق بيانه ; فإنه لا تفهم حقيقته ، وليس الخطاب به تجهيلا للسامع ، ولا عبثا من [ ص: 694 ] المتكلم ، فكما جاز الخطاب بالمتشابه ، بدون فهم حقيقته ، ولم يكن عبثا ، كذلك يجوز الخطاب بالمجمل ، وإن أخر بيان حقيقته ، ولا يكون عبثا .

قوله : " فإن منع ، فقد بيناه " ، أي : إن منع أن المتشابه لا تفهم حقيقته ; فقد سبق بيانه في موضعه ، وأن تأويله لا يعلمه إلا الله لا غير .

وإن قال الخصم : إن المتشابه " فائدته الانقياد الإيماني " ، أي : الانقياد للإيمان به ، كما قال الراسخون في العلم : آمنا به .

قلنا : وفائدة الخطاب بالمجمل " الانقياد التكليفي " ، أي : الانقياد للعزم على امتثال التكليف به ، فإذا قيل للمرأة : اعتدي بالأقراء ; عزمت على الاعتداد بأنها أمرت به ، وبين لها ، وإذا قيل : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم [ التوبة : 103 ] ، أفاد عزم كل ذي مال على إخراج الزكاة ، من جميع أنواع ماله ومقاديره ، حتى يرد التخصيص النوعي بسائمة الأنواع ، والنقدين ، والخارج من الأرض ، والتخصيص المقداري بشاة من أربعين ، وخمسة دراهم من مائتين ، ونحو ذلك ، فإن لم يعزم على ذلك ، عصى ، وهذا شبيه بما مر بالنسخ قبل امتثال الفعل ، وهذه فائدة عظيمة قد أفادها الخطاب بالمجمل ; فهي في بابها كفائدة الإيمان بالمتشابه في بابها .

قوله : " وإيجاب الصلاة " ، إلى آخره . هذا جواب ثان بالفرق ، والذي سبق جواب بالنقض .

وتقرير هذا الجواب : أن الفرق بين الخطاب بالمجمل ، والخطاب بما ذكرتموه ، من أبجد هوز ونحوه ، هو أن الخطاب بالمجمل يفيد ماهيات [ ص: 695 ] الأحكام ; فلا يضر تأخير بيان تفصيلها إلى وقت الحاجة إلى العمل بها ، وذلك كقوله سبحانه وتعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ النور : 56 ] ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، لا تأكلوا الربا [ آل عمران : 130 ] ، ونحوه ، أفادنا وجوب الصلاة والزكاة ، وقطع يد السارق ، وتحريم الربا ، وإذا استفيدت ماهية الوجوب والحظر ، وجب اعتقادها ; فمن اعتقد وجوب الصلاة ، وتحريم الربا عليه وأنه ممتثل للأمر بهما ، عند بيان أحكامهما ; أثيب ، ومن لم يعتقد ذلك ، عصى ، وإذا جاء وقت العمل ، بين لنا أن الصلاة خمس ، وأن ركعاتها سبع عشرة ، وأن الفجر ركعتان ، والمغرب ثلاث ، وبقية الصلاة رباعية ، وأن التفاضل يحرم في كل مكيل أو موزون بجنسه ، وأنه إذا اختلف الجنسان ، جاز التفاضل يدا بيد ، وأشباه ذلك ، وهذا مما لا مانع منه ، شرعي ولا عقلي ، بخلاف ما ذكرتموه من خطاب العجمي بالعربية ، وإيجاب الصلاة بأبجد هوز ; فإنه لا يفيد فائدة أصلا ، وإرادة البقر من لفظ الإبل تغيير للوضع ، وقلب لحقائق اللغة ، والله تعالى أعلم .

ومن فرق بين الأمر والخبر ، احتج بأن الخبر والإجمال يوهم الكذب ; فيجب تداركه بالبيان ، بخلاف الأمر .

ويجاب عنه بأن في الأمر أيضا توهم تعلق الحكم بغير محله ، من الأعيان أو الزمان ، وهو قبيح كالكذب .

ومن فرق بين المجمل وغيره ، احتج بأن المجمل يوجب التوقف ، ولا [ ص: 696 ] يوهم ثبوت الحكم في غير محله ، بخلاف غيره ، كالعام مثلا ; فإنه ظاهر في إرادة جميع مدلوله بالحكم .

والتقدير أن بعض مدلوله غير مراد به ; فيكون إيهاما للباطل ; فيجب تداركه بالبيان ، نفيا لهذا الإيهام .

ويجاب عنه بنحو الجواب عن الأول ، وهو أن تأخير بيان المجمل يوهم إرادة كل واحد من محتمليه ، أو محتملاته ، مع أن جميعها غير مراد ، وهو إيهام للباطل ; فهو كإيهام العموم التعميم ; وإن ظهر بينهما تفاوت في قوة الإيهام وضعفه ، غير أن أصل الإيهام موجود في الصورتين ، وهو كاف في الجمع بينهما في الحكم .

فائدتان :

إحداهما : وقع ذكر ابن نوح في أدلة هذه المسألة . وقد اختلف العلماء فيه ، هل كان ابنه لصلبه ، أو لم يكن ابنه ، بل كان للزنى ; فذهب إلى الأول الحسن ، وابن سيرين ، وعبيد بن عمير ; قالوا : وإنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالولد للفراش ، من أجل ابن نوح ، وحلف الحسن : إنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك : إنه ابنه ، وللنزاع مأخذان :

أحدهما : أن الخيانة في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما [ التحريم : 10 ] ، هل هي بما عدا الزنا ، أو بالزنا وغيره ; فقال ابن عباس : خانتاهما بالكفر ; فكانت امرأة نوح عليه السلام تقول للناس : إنه [ ص: 697 ] مجنون ، وكانت امرأة لوط عليه السلام إذا ورد عليه ضيف ، تخبر به قومها ، وتغريهم به .

قال ابن عباس : وما بغت امرأة نبي قط ، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا ، يعني الزنا .

وقال الحسن : خانتاهما بالزنا وغيره . فمن قال بالأول قال : هو ابنه ، [ ص: 698 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [ ص: 699 ] ومن قال بالثاني ، قال : ليس بابنه ; لأنه كان من خيانتها بالزنا .

قلت : وهذا ضعيف ، أما الأول ; فلأن الخيانة المنسوبة إليها في الآية مطلقة ، وقد أجمعنا على تحقيقها بالكفر ونحوه من الأذى ، وذلك واف بمطلق الآية ، يبقى خصوص الزنا ، لا دليل عليه .

وأما ثانيا : فلأن تقدير أنها خائنة بالزنا ; لكن ذلك أيضا مطلق ، يكفي في تحقيقه زنا مرة ; فمن أين لنا أن ذلك الولد من تلك المرة ، ولو فرضنا أنها زنت مرارا ، لم يكف ذلك في تحقق أنه من تلك المرار ، ولا في ظهور ذلك فضعف هذا المأخذ .

المأخذ الثاني : أن قوله سبحانه وتعالى : ونادى نوح ابنه وكان في [ ص: 700 ] معزل يا بني اركب معنا [ هود : 42 ] ، وقال : إن ابني من أهلي ، يدل على أنه ابنه ، لإضافته إليه : ابني ، وقوله عز وجل ، وعلى هذا عولعكرمة والضحاك ، ومن تابعهما ، وعول الحسن ومن تابعه ، على قوله عز وجل : إنه ليس من أهلك [ هود : 46 ] ، وحقيقته تقتضي نفي النسب .

قلت : وهو أيضا ضعيف ; لأن الأهلية تستعمل في اللسان تارة في النسب ، وتارة في الدين وغيره ، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هو ابنه ، غير أنه قد خالفه في العمل والنية ; فهي مجمل ، والتصريح بالبنوة ، وإضافتها لنوح عليه السلام مبين ; فيكون مقدما ، ويحتمل أن المراد : ليس من أهلك الذي وعدتك أن أنجيهم ، كما روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كنت عند الحسن فقال : ونادى نوح ابنه وتقول : ليس بابنه ؟ قال : أرأيت قوله : ليس من أهلك ؟ قال : قلت ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك ، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه ، قال : إن أهل الكتاب يكذبون .

واحتج الطنزي ، بالنون والزاي المعجمة ، على ضعف قول الحسن بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : ونادى نوح ابنه فكيف يخبر الله عز وجل عما لم يكن ؟

الثاني : أن نوحا عاش عمر ابنه ، وهو يقول : ابني .

[ ص: 701 ] الثالث : أنه لم يبتل نبي بهذه البلوى ، وقد نزه الله سبحانه وتعالى رسله عما هو دون هذه الرذيلة ، وبهذا احتجت عائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حديث الإفك حيث قالت : هبك شككت في ، أشككت في نفسك .

قلت : هذا معنى كلامه ، وقد أشرنا إليه قبل ، وليست هذه الوجوه قواطع في بطلان قول الحسن ، إذ له أن يجيب :

عن الأول ; بأن الله سبحانه وتعالى أضافه إلى نوح عليه السلام إضافة فراش ، لا إضافة ولادة .

وعن الثاني بذلك أو بأن نوحا لم يعلم أنه ليس منه ، ولم يطلعه الله عز وجل على ذلك لحكمة ما .

وعن الثالث بأنه لا يلزم من صيانة منصب غالب الأنبياء عن هذه البلوى ; صيانة منصب نوح عنها ، لجواز أن يخصه الله بذلك ، ابتلاء وامتحانا ، أو لشقاء تلك المرأة ، كما خص امرأة لوط بالقيادة والسعاية في اللواط ، ولم يكن ذلك في امرأة نبي غيره .

قلت : وثم مأخذ آخر للخلاف ، وهو قوله عز وجل لنوح عليه السلام : فلا تسألن ما ليس لك به علم [ هود : 46 ] ، فإن فيه إيماء إلى ما قاله الحسن ، إذ لو كانت علة إهلاكه الكفر ، لم يصح ذلك ، إذ نوح قد كان يعلم كفر ابنه ، وإنما الذي لم يعلمه هو كونه لغير صلبه .

ويجاب عن هذا : بأن المراد أنه سبحانه وتعالى سبق في علمه أنه من [ ص: 702 ] أهل النار ، ونوح لم يعلم ذلك .

قلت : التحقيق : أنه لا قاطع في المسألة بنفي ولا إثبات ، ولا نزاع في احتمال ما قاله الحسن ، وانه ليس بمحال عقلا .

أما من حيث الظهور ; فالظاهر مع من قال : إنه ابنه لصلبه ، وقد يجمع بين القولين بأنه ابنه للفراش دون الصلب ، وانبنى على النزاع المذكور الخلاف في القراءة في قوله عز وجل : إنه عمل غير صالح [ هود : 46 ] فقرأ الحسن ومن تابعه : إنه عمل غير صالح بالرفع ، يعني : ابن نوح عمل غير صالح ؛ لأنه من الزنا وهو عمل غير صالح ، وهي قراءة السبعة إلا الكسائي ; فإنه قرأ : عمل غير صالح على الفعل الماضي ، يعني عمل الكفر ، لا أنه من زنا ، والله تعالى أعلم .

الثانية : أن المجمل والمبين يتفاوتان في مراتب الإجمال والبيان ; فيكون بعض الألفاظ أشد إجمالا من بعض ، وبعضها أشد بيانا من بعض .

ومثال ذلك قوله تعالى في سورة ق : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود [ ق : 39 - 40 ] وفي سورة الطور : وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم [ الطور : 48 - 49 ] ، وفي سورة هود : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل [ هود : 114 ] . فهذه الآيات إشارة إلى مواقيت الصلاة الخمس ، وأشد بيانا منها في ذلك قوله تعالى في سورة سبحان : أقم الصلاة لدلوك الشمس ، يعني الظهر إلى غسق الليل يتناول العصر [ ص: 703 ] والعشاءين ، وقرآن الفجر الصبح ، ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ الإسراء : 78 - 79 ] التطوع ، فجمع في الآية فرض الصلاة ونفلها . وفي سورة طه : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس [ طه : 130 ] ، يعني الفجر وقبل غروبها يعني العصر ، ومن آناء الليل فسبح يعني العشاءين والتطوع ، وأطراف النهار يعني الظهر ; لأنها في وسط النهار بين طرفيه ، أو يريد بما قبل غروبها العصر والظهر ; لأن وقتهما واحد ، ولأنه يصح أن يقال : الظهر قبل غروب الشمس ، ولهذا قلنا : إذا أدرك المعذور قدر تكبيرة قبل الغروب ، لزمه قضاء الظهر والعصر ، ومن آناء الليل العشاءين والتطوع ، وأطراف النهار التطوع أيضا . وفي سورة الروم [ الآية : 17 ] : فسبحان الله حين تمسون العصر وحين تصبحون الفجر ، مطابقة لقوله عز وجل : قبل طلوع الشمس وقبل غروبها [ طه : 130 ] ، وعشيا العشاءان ، وحين تظهرون [ الروم : 18 ] الظهر .

فهذه الآيات الثلاث : أدخل في البيان عن مواقيت الصلاة ، من الآيات الثلاث الأول ، وأبين من ذلك كله ما وردت به السنة من أحاديث المواقيت ، ، وأبين من أحاديث السنة ما فصله الفقهاء من ذلك في كتب الفقه ، وإلى هنا انتهى البيان .

وهكذا في كثير من الأحكام ; السنة أبين من الكتاب ; لأنها موضوعة لبيانه ، وكلام الفقهاء أبين من السنة ; لأنه موضوع لتفصيل أحكام الكتاب والسنة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية