صفحة جزء
[ ص: 155 ] وأما الثاني : فكاستصحاب العموم والنص حتى يرد مخصص أو ناسخ واستصحاب حكم ثابت كالملك وشغل الذمة بالإتلاف ونحوه .

أما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف كالتمسك في عدم بطلان صلاة المتيمم عند وجود الماء بالإجماع على صحة دخوله فيها فيستصحب ، فالأكثر ليس بحجة خلافا للشافعي وابن شاقلا .

لنا : الإجماع إنما حصل حال عدم الماء لا وجوده ، فهو إذن مختلف فيه ، والخلاف يضاد الإجماع ، فلا يبقى معه ، كالنفي الأصلي مع السمعي الناقل ، بخلاف العموم والنص ، ودليل العقل لا ينافيها الاختلاف فيصح التمسك بها معه والله أعلم .

ونافي الحكم يلزمه الدليل خلافا لقوم ، وقيل : في الشرعيات فقط .


قوله : " وأما الثاني " وهو التمسك بدليل شرعي لم يظهر عنه ناقل ; فهو كاف " كاستصحاب العموم والنص حتى يرد مخصص أو ناسخ " أي : كاستصحاب حكم العموم حتى يرد مخصص له ، واستصحاب حكم النص حتى يرد له ناسخ ، وإنما استعملت في عبارتي اللف والنشر ، وكذلك " استصحاب " كل " حكم ثابت ، كالملك " حتى يوجد ما يزيله ، كالبيع والهبة " وشغل الذمة " حتى يوجد ما يفرغها بأداء الدين إن كانت مشغولة بدين ، أو بأداء قيمة المتلف إن كانت مشغولة بإتلاف شيء ، وغير ذلك من الشواغل .

تنبيه : كل ما كان أصلا في الدلالة وجب حمل اللفظ عليه ، حتى [ ص: 156 ] يقوم الدليل الناقل عنه ، فاللفظ يحمل على حقيقته حتى يقوم دليل المجاز ، وعلى العموم حتى يقوم دليل التخصيص ، وعلى الإفراد حتى يقوم دليل الاشتراك ، وعلى الاستقلال بالدلالة حتى يقوم دليل الإضمار ، وعلى الإطلاق حتى يقوم دليل التقييد ، وعلى التأصيل حتى يقوم دليل الزيادة ، وعلى الترتيب الواقع حتى يقوم دليل التقديم والتأخير ، وعلى التأسيس حتى يقوم دليل التأكيد ، وعلى الإحكام حتى يقوم دليل النسخ ، وعلى المعنى الشرعي حتى يقوم دليل اللغوي إذا كان اللفظ واردا من الشرع ، أو بالعكس إن كان واردا من أهل اللغة ، وعلى المعنى العرفي حتى يقوم دليل اللغوي ، كل ذلك عملا باستصحاب الحال الراجح ، والعمل بالراجح متعين ، فالاستصحاب إذن على ضربين : حكمي ، ولفظي .

قوله : " أما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف ، كالتمسك في عدم بطلان صلاة المتيمم عند وجود الماء بالإجماع " أي : بأن يقال : أجمعنا " على صحة دخوله فيها " أي : في الصلاة بالتيمم " فيستصحب " حال تلك الصحة " فالأكثر ليس بحجة ، خلافا للشافعي وابن شاقلا " .

وقال الآمدي : منع الغزالي وجماعة من الأصوليين من استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف ، وجوزه آخرون . قال : وهو المختار ، كما نقول : أجمعنا على حصول الطهارة من الحدث قبل خروج الخارج [ ص: 157 ] النجس من غير السبيلين ، فيستصحبها بعد خروجه .

قلت : وكذا قولنا : أجمعنا على أن هذا مالك للصيد قبل الإحرام ، فيستصحب حكم الملك بعد الإحرام ، وأجمعنا على أن هذا مالك لما في يده قبل الردة ، فيستصحب الملك بعد الردة ، ونحو ذلك .

قال ابن المعمار البغدادي : قال أبو ثور وداود والصيرفي : وهو دليل يعني استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف .

قوله : " لنا : " أي : على أن هذا الاستصحاب ليس بحجة أن " الإجماع " في صورة التيمم مثلا " إنما حصل حال عدم الماء " . أما حال وجوده " فهو " " مختلف فيه ، والخلاف يضاد الإجماع " فلا يجتمعان ، ولا يبقى الإجماع مع الخلاف حال عدم الماء مثلا ، كما أن النفي الأصلي الدال على عدم الحكم لا يبقى مع الدليل السمعي الناقل عن حكم النافي ، لكونه يضاده . وهذا " بخلاف العموم والنص ، ودليل العقل " كالقياس ونحوه ، فإن الاختلاف في الحكم " لا ينافيها " " فيصح التمسك بها " مع الاختلاف ، ولا كذلك الإجماع ، فإن الخلاف ينافيه ، فلا يصح التمسك به معه .

احتج الخصم بأن الحكم ثابت قبل الخلاف بالإجماع ، والأصل في كل متحقق دوامه لما سبق ، فيكون هذا الحكم دائم الثبوت ، وهو المطلوب .

[ ص: 158 ] والجواب : أن الأصل في كل متحقق دوامه ما لم يوجد ما ينافيه ، وقد بينا أن الخلاف الحادث ينافي الإجماع الأول ، فلا يبقى الحكم مجمعا عليه ، وهو المطلوب .

وأيضا ثبوت الحكم في محل الخلاف يستدعي دليلا ، والأدلة منحصرة في النص ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، ولا شيء منها في محل النزاع في صورة التيمم والطهارة قبل خروج الخارج مثلا .

فإن قيل : الاستصحاب ضرب من الاستدلال ، وقد دل على ثبوت الحكم في محل النزاع .

قلنا : إن سلمنا أنه استدلال ، فهو معارض بما ينافيه ، فلا يبقى معه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

فائدة : القاعدة العقلية والشرعية : أن الأقوى لا يرفع بالأضعف ، فقد يقال على هذا : إن البراءة الأصلية قاطعة ، وقد رفعها الشرع بالقياس في التكليفات ، وبالبينة الشرعية كرجلين ، ورجل وامرأتين في المعاملات ، وهذه أمور ظنية قد رفعت البراءة القاطعة ، فإنا نعلم قطعا براءة الواحد منا من وجوب غسل النجاسة من ولوغ أو غيره ، ومن تحريم شرب النبيذ ، ثم شغلنا ذمته بوجوب غسل النجاسة بقوله - عليه السلام - : حتيه ثم اقرصيه ، ثم اغسليه بالماء ، ثم صلي فيه ، وبقوله - عليه السلام - : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم . . . الحديث ، وقول ابن عمر - رضي الله عنهما - : أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعا . وشغلناها بتحريم النبيذ بقياسه على الخمر فكيف هذا ؟ [ ص: 159 ] والجواب : أما التكاليف الشرعية ، فلا نسلم أن الأصل براءة الذمم منها ، بل الأصل اشتغالها بها ، نظرا إلى أن الله - سبحانه وتعالى - لما استخرج الذرية من صلب آدم - عليه السلام - أمرهم بالسجود ، فسجدوا ، ثم أخذ عليهم الميثاق أنه إذا أرسل إليهم الرسل بالتوحيد ، والتكاليف بالعبادات أن يطيعوا ، وذلك معنى قوله - عز وجل - : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم إلى قوله : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [ الأعراف : 172 ] . فمن ذلك اليوم ; الذمم مشغولة بالتوحيد وأحكامه وفروعه ، وهو ثابت بحق الأصل فيها .

وإنما انقطع التكليف في حق كل واحد منا فيما بين يوم أخذ الميثاق عليه ، ويوم بلوغه حد التكليف ، لعدم الأهلية فيما بين ذلك ، لكونه معدوما في تلك المدة ، وإن كان موجودا في علم الله - عز وجل - كما ينقطع في أثناء مدة التكليف الشرعي ، بالجنون والحيض ، وبأسباب الرخص . وحينئذ خبر الواحد والقياس ليس رافعا للبراءة القاطعة من التكليف ، بل مؤكد ومجدد لاشتغالها الأصلي به ، والضعيف قد يؤكد القوي ولا يرفعه ، وقول الفقهاء : الأصل عدم التكليف ; إنما هو بالنظر إلى زمن وجود المكلف في هذه [ ص: 160 ] الحياة ، وهذه النشأة ، أما بالنظر إلى أول أزمنة التكليف ، فهو يوم أخذ الميثاق الأول ، وهو النظر الصحيح إن شاء الله تعالى ، وبه يندفع الإشكال المذكور .

وأما رفع البراءة الأصلية بالبينة الشرعية في المعاملات ، فنقول : المقطوع به في البراءة الأصلية إنما هو مجرد عدم اشتغالها بالحق المدعى به .

أما دوام ذلك العدم إلى حين الدعوى ، فلا قاطع به ، لاحتمال أن هذا الغريم المدعى عليه بعد براءة ذمته الأصلية من حق خصمه ، شغلها بأن غصبه ، أو اقترض منه ، أو اشترى منه ، ونحو ذلك ، فالمدعي يدعي تجديد شغل ذمة المدعى عليه بعد فراغها ، والمدعى عليه ينكر ذلك ، ويدعي استمرار فراغ ذمته ودوامه ، فصار اختلافهما في دوام فراغ الذمة وعدمه بعد الاتفاق على فراغها الأصلي ، كالاختلاف بعد الإجماع في مسألة الاستدلال بالإجماع في محل الخلاف . وحينئذ لا تكون البينة الشرعية الظنية رافعة لأمر قطعي ، لأن القطعي هو ثبوت مجرد عدم شغل الذمة ، والبينة لا ترفع ذلك ، وإنما ترفع دوام ذلك العدم ، وهو ظني مختلف فيه ، وصارت البينة كالمرجح لقول أحد الخصمين المتنازعين ، وهو المدعي .

فإن قيل : هذا تقرير متجه ، لكن يشكل عليه ما قرره الفقهاء من أن البينة إنما جعلت في جانب المدعي ، واليمين في جانب المدعى عليه ، لأن جانب المدعي ضعيف ، لدعواه خلاف الأصل ، وهو اشتغال ذمة المدعى عليه ، والأصل فراغها ، وجانب المدعى عليه قوي لدعواه وفق الأصل ، وهو فراغ ذمته [ ص: 161 ] من الحق ، والبينة أقوى من اليمين ، فجعلت الحجة التي هي أقوى في جانب الأضعف ، والتي هي أضعف في جانب الأقوى تعديلا .

قلنا : هذا لا يشكل على ما قررناه ؛ لأن هذا إنما يقتضي كون جانب المدعى عليه وهو المنكر راجحا ، لكن الرجحان أعم من أن يكون قاطعا أو غير قاطع ، ورجحان جانب المنكر غير قاطع ؛ لما قررناه من اختلافهما في دوام براءة ذمته القاطعة .

وحينئذ نقول : جانب المنكر راجح لحصول القطع ببراءة ذمته بالجملة في وقت من الأوقات . فلهذا الرجحان ضممنا إليه الحجة الضعيفة ، وهي اليمين ، وليس ذلك الرجحان قاطعا ، حتى يكون رفعه بالبينة الشرعية رفعا للقاطع بالظني ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

قوله : " ونافي الحكم يلزمه الدليل ، خلافا لقوم . وقيل : في الشرعيات فقط " .

اعلم أن الناس اختلفوا في المستدل على نفي الحكم كقوله : ما الأمر كذا ، أو ليس الأمر كذا ، فالمشهور وهو قول الأكثرين أنه يلزمه إقامة الدليل على نفي الحكم الذي ادعى نفيه ، ولا يكفيه مجرد دعوى النفي .

وقال قوم : لا يلزمه الدليل على النفي ، كأنهم اكتفوا بكون دعواه موافقة للأصل ، وهو عدم الأشياء وانتفاؤها ، فمن ادعى وجودها وثبوتها ، فعليه الدليل ، ولهذا بنى بعضهم هذه المسألة على أن الاستصحاب حجة أم لا ؟

إن قلنا : هو حجة ، فلا دليل على النافي

وإن قلنا : ليس بحجة ، فعليه الدليل .

[ ص: 162 ] قلت : وهذا التفريع ضعيف ؛ لأنا قد بينا رجحان وجوب الدليل عليه مع قولنا : إن الاستصحاب حجة ، فدل على أن كل واحدة من المسألتين أصل بنفسها .

وقال آخرون : يلزمه الدليل " في الشرعيات " نحو : لا تشترط النية للصلاة ، ولا يلزمه في العقليات نحو : ليس العالم بقديم .

التالي السابق


الخدمات العلمية