صفحة جزء
[ ص: 73 ] كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون [ من ] حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى ، لا من جهة أخرى ; فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني ، لا بالقصد الأول ، والدليل على ذلك أمور أحدها : ما تقدم في المسألة قبل أن كل علم لا يفيد عملا ; فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ، ولو كان له غاية أخرى شرعية ; لكان مستحسنا شرعا ، ولو كان مستحسنا شرعا ; لبحث عنه الأولون من الصحابة ، والتابعين ، [ ص: 74 ] وذلك غير موجود ، فما يلزم عنه كذلك .

والثاني : أن الشرع إنما جاء بالتعبد ، وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم [ النساء : 1 ] .

الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله [ هود : 1 - 2 ] .

كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [ إبراهيم : 1 ] .

ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] .

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ الأنعام : 1 ] ; أي يسوون به غيره في العبادة ، فذمهم على ذلك .

وقال : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [ المائدة : 92 ] .

لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات [ الكهف : 2 ] .

وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ الأنبياء : 25 ] .

إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص الآية [ الزمر : 2 - 3 ] .

[ ص: 75 ] وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى ، كلها دال على أن المقصود التعبد لله ، وإنما أوتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده سبحانه لا شريك له ، ولذلك قال تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [ محمد : 19 ] .

وقال : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [ هود : 14 ] .

وقال : هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين [ غافر : 65 ] .

ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد ، لا بد أن أعقبت بطلب التعبد لله وحده ، أو جعل مقدمة لها ، بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها ألا تذكر إلا كذلك ، وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم ، والآيات في هذا المعنى لا تحصى .

والثالث : ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل ، وإلا فالعلم عارية ، وغير منتفع به ، فقد قال الله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28 ] .

وقال : وإنه لذو علم لما علمناه [ يوسف : 68 ] .

قال قتادة : يعني لذو عمل بما علمناه .

[ ص: 76 ] وقال تعالى : من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة . . . إلى أن قال : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب [ البقرة : 44 ] .

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى : فكبكبوا فيها هم والغاوون [ الشعراء : 94 ] ; قال : قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم ، وخالفوه إلى غيره .

وعن أبي هريرة قال : إن في جهنم أرحاء تدور بعلماء السوء ، فيشرف عليهم من كان يعرفهم في الدنيا ، فيقول : ما صيركم في هذا ، وإنما كنا نتعلم منكم ، قالوا : إنا كنا نأمركم بالأمر ونخالفكم إلى غيره .

[ ص: 77 ] وقال سفيان الثوري : إنما يتعلم العلم ليتقى به الله ، وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقى الله به .

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال ، وذكر فيها : وعن علمه ماذا عمل فيه .

[ ص: 78 ] وعن أبي الدرداء : " إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة : أعلمت أم جهلت ، فأقول : علمت ، فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها ، فتسألني الآمرة : هل ائتمرت ؟ والزاجرة : هل ازدجرت ؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع ، [ ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ] ، ومن دعاء لا يسمع " .

وحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم [ ص: 79 ] القيامة ، قال فيه : ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : تعلمت فيك العلم وعلمته ، وقرأت القرآن ، قال : كذبت ، ولكن ليقال : فلان قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .

وقال : إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه .

[ ص: 80 ] وروي أنه عليه السلام كان يستعيذ من علم لا ينفع .

وقالت الحكماء : من حجب الله عنه العلم ; عذبه على الجهل ، وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه ، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به ، وقال معاذ بن جبل : " اعلموا ما شئتم أن تعلموا ؛ فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا " .

[ ص: 81 ] وروي أيضا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه زيادة : إن العلماء همتهم الرعاية ، وإن السفهاء همتهم الرواية .

وروي موقوفا أيضا عن أنس بن مالك ، وعن عبد الرحمن بن غنم قال : حدثني عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : كنا نتدارس العلم في مسجد قباء ; إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا .

[ ص: 82 ] وكان رجل يسأل أبا الدرداء فقال له : كل ما تسأل عنه تعمل به ؟ قال : لا . قال : فما تصنع بازدياد حجة الله عليك ؟ .

وقال الحسن : " اعتبروا الناس بأعمالهم ، ودعوا أقوالهم ; فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه ، فإذا سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه ; فإن وافق قوله عمله ، فنعم ونعمة عين " .

وقال ابن مسعود : " إن الناس أحسنوا القول كلهم ، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه ، ومن خالف فعله قوله ; فإنما يوبخ نفسه " .

وقال الثوري : " إنما يطلب الحديث ليتقى به الله عز وجل فلذلك فضل على غيره من العلوم ، ولولا ذلك كان كسائر الأشياء " .

وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ; قال : " أدركت الناس وما [ ص: 83 ] يعجبهم القول ، إنما يعجبهم العمل " ، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى ، وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي ، وإنما هو وسيلة إلى العمل ، وكل ما ورد في فضل العلم ; فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به .

فلا يقال : إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله ، وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن مرتبة العلماء تلي مرتبة الأنبياء ، وإذا كان كذلك ; ، وكان الدليل الدال على فضله مطلقا لا مقيدا ; فكيف ينكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة ، هذا وإن كان وسيلة من وجه ، فهو مقصود لنفسه أيضا كالإيمان ; فإنه شرط في صحة العبادات ، ووسيلة إلى قبولها ، ومع ذلك فهو مقصود لنفسه .

لأنا نقول : لم يثبت فضله مطلقا ، بل من حيث التوسل به إلى العمل بدليل ما تقدم ذكره آنفا ، وإلا تعارضت الأدلة ، وتناقضت الآيات والأخبار ، [ ص: 84 ] وأقوال السلف الأخيار ; فلا بد من الجمع بينها ، وما ذكر آنفا شارح لما ذكر في فضل العلم والعلماء ، وأما الإيمان ; فإنه عمل من أعمال القلوب ، وهو التصديق ، وهو ناشئ عن العلم ، والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض ، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها ، أما العلم ; فإنه وسيلة ، وأعلى ذلك العلم بالله ، ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه ، وهو الإيمان بالله .

فإن قيل : هذا متناقض ; فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به .

قيل : بل قد يحصل العلم مع التكذيب ; فإن الله قال في قوم : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ النمل : 14 ] .

وقال : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ البقرة : 146 ] .

وقال : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون [ الأنعام : 20 ] .

فأثبت لهم المعرفة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم بين أنهم لا يؤمنون ، وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم ، كما أن الجهل مغاير للكفر .

نعم ، قد يكون العلم فضيلة ، وإن لم يقع العمل به على الجملة ، كالعلم بفروع الشريعة ، والعوارض الطارئة في التكليف ، إذا فرض أنها لم تقع في [ ص: 85 ] الخارج ; فإن العلم بها حسن ، وصاحب العلم مثاب عليه ، وبالغ مبالغ العلماء ؛ لكن من جهة ما هو مظنة الانتفاع عند وجود محله ، ولم يخرجه ذلك عن كونه وسيلة ، كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة ، وإن لم يأت وقت الصلاة بعد ، أو جاء ولم يمكنه أداؤها لعذر ، فلو فرض أنه تطهر على عزيمة أن لا يصلي ; لم يصح له ثواب الطهارة ، فكذلك إذا علم على أن لا يعمل ؛ لم ينفعه علمه ، وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من النصارى واليهود يعرفون دين الإسلام ، ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه ، ولم يكن ذلك نافعا لهم من البقاء على الكفر باتفاق أهل الإسلام .

فالحاصل أن كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه ، وهو العمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية