الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الأب والجد في القرآن الكريم

الأب والجد في القرآن الكريم

تمهيد
نشير في البداية إلى أن كلمة "جد" بمعنى والد الوالد لم ترد في القرآن الكريم ، إنما وردت في موضع واحد لكن بمعنى مختلف وهو "العظمة" قال سبحانه:
(وأنه تعالى جَدُّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً) (الجن: 3) أي تعالت عظمته وجلاله سبحانه أن يكون له ولد أو زوجة .
لكن الجد في حقيقة الأمر هو أب ، لأنه أصل النسل وبسببه كان الوالد والولد معاً ، لذلك له من الحقوق ما للأب من الحقوق وعليه ما عليه من الواجبات .
وقد ورد في القرآن إطلاق لفظ "الأب" على الجد في مواضع نوردها فيما يأتي :
(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم) (يوسف: 6) ، والخطاب موجه إلى يوسف ، وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام .
(واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (يوسف: 38) والخطاب ليوسف أيضاً .
(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) (البقرة: 133) ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم. وإسماعيل هو أخو إسحاق من أبيه.
( ربكم وربُّ آبائكم الأولين ) (الشعراء: 26 - الصافات: 126 - الدخان: 8).
( ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) (المؤمنون: 24 - القصص: 36) .
( فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) (الدخان: 36).
( ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ) (الجاثية : 25) .
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) (الأعراف: 27) .
ومن ثم قال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير : الجد أبٌ ، وقرأ ابن عباس (يا بني آدم) ( واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) . (رواه البخاري في كتاب الفرائض)
وللأب على الولد حقُّ البر والإحسان ، وعلى الأب تقع مسؤولية التربية الخلقية والاجتماعية والدينية ، وكل ولد سيصبح أباً - سواء في حياة الأب الذي أصبح جداً أم بعدها - ومن ثم ستتضاعف مسؤولية الجد ، بوصفه أباً مرة وبوصفه جداً أخرى ، وهو مسؤول عن انحراف ولده في تربية ابن الابن ، ويجب عليه تقويمه بموجب واجباته نحو ابنه ، ثم ابن ابنه .
وإذا كان الجد أباً فإن له حقوق الأب وعليه واجبات الأب كذلك ، ولهذا سنحاول عرض موضوع الأب (المباشر وغير المباشر) من خلال القرآن الكريم .
1. اتباع الآباء والأجداد:
يعيب القرآن اتباع الآباء - والأجداد على غير هدى ، إن كانوا في ضلال مبين - كما يعيب التقليد الأعمى الذي كان من المشركين لآبائهم في الجاهلـية حتى إذا : ( قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! (البقرة: 170) (وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (المائدة: 104) .
(وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا ، والله أمرنا بها ، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ، أتقولون على الله ما لا تعلمون) (الأعراف: 28) .
ومما يجب على الولد البارّ : رعاية شؤون والديه وجديه المسنين والقيام بحاجاتهم وهو النموذج الذي جسدته ابنتا النبي شعيب عليه السلام : (قالتا: لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير). (القصص: 23) .
ولما كان حال الكبر هو مظنة الإهمال والضجر والغضب خصه سبحانه وتعالى بالذكر من بين سائر حالات الوالدين فأوصى بهما خيراً فقال سبحانه :
(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل: رب ارحمهما كما ربياني صغيراً) (الإسراء: 23 - 24) وقوله "أف" إشارة إلى أدنى أذًى يمكن أن يخدش شعور الوالدين ، ومن ارتكبه من الأبناء فهو آثم.
ب. حقوب الولد على الأب :
حقوق الولد على الأب كثيرة، بدءاً من ولادته ، بل منذ أن يكون حملاً ، وحتى بلوغه بل حتى وفاة الوالد . فكل راعٍ مسؤول عن رعيته ، من رعاية شؤونها ، وتدبير مصالحها وتلبية حاجاتها وبذل النصح والإرشاد لها ثم بعد ذلك (كل امرئ بما كسب رهين) (الطور:21) .
ومن أهم الحقوق التي أشار إليها القرآن الكريم على لسان قوم مريم عليها السلام حين قالوا : (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيَّا) (مريم:28) هي المسؤولية الأخلاقية ، فالوالدان مسؤولان عن التربية الخلقية والاجتماعية والبدنية للولد والمسؤول عن تربية الوالدين هو الجد والجدة ومن ثم فالمسؤولية تكون بالتناوب ، فتنتقل من الجد إلى الأب ، وهكذا .
وحتى تؤدى تلك الحقوق والواجبات على الوجه الأمثل ، وتكون ثمة استجابة من الطرفين للنصح والإرشاد يجب أن توطد العلاقة بين الولد وأبيه ، أو بين الولد وجده ، ويجب أن تكون قائمة على الود والاحترام والحب والعطف والحنان ، يُسر الولد إلى أبيه أو جده ، ويرتقي الأب والجد بالولد ، فيشعرانه بقيمته الذاتية الإنسانية ، فيعززان الثقة في نفسه والشعور بقيمته حتى يعيش حياة مطمئنة ، وليحرص الأب على أن يكون بينه وبين ولده علاقة صداقة حتى يطمئن الولد إليه فيصارحه بكل ما يحدث له من أمور ، وكذلك الجد عليه أن يكون عوناً للولد على أموره وأن يمنحه الأمن والاطمئنان في العاطفة الصادقة ليصارحه بكل ما يعرض له .
ومن الأمثلة التي يجب أن تحتذى ما جسده القرآن الكريم في سورة يوسف من العلاقة القائمة بين يوسف وأبيه : (إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً) (يوسف: 4 - 5) .
3. النظام التشريعي :
يعرض القرآن الكريم - في إطار رسم معالم الأسرة المسلمة ومسؤوليات الأب والجد، الركن الأساسي في الأسرة - يعرض إلى النظام التشريعي ، بالإضافة إلى النظام الأخلاقي على نحو متكامل.
ففي العلاقات الأسرية يحرم الإسلام نكاح ما نكح الأباء ليحفظ حقوق الأسرة ومشاعر الأب والنسب ، وكل الإشكالات التي تنشأ عن ذلك ، فتقلب كيان الأسرة يقول سبحانه : (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف). (النساء : 22) .
وفي اللباس والزينة يبيح الإسلام للمرأة أن تبدي زينتها لأبيسها وجدها وكذلك لأبي زوجها وجده، قال سبحانه : (ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن) (النور: 31) .
وفي الأطعمة يبيح الإسلام الأكل من بيت الجد والأب يقول سبحانه : (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) (النور: 61) .
ثم إن القرآن الكريم يتعرض لمسألة خطيرة هي موالاة الآباء والأجداد من دون الله سبحانه يقول : (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (المجادلة: 22) .
وهذا لا يتنافى مع قوله سبحانه: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) (لقمان : 11) .
فالله سبحانه نهى عن موادّة من حارب الله ورسوله وأن ذلك يتنافى مع الإيمان
ولا يلزم من المصاحبة بالمعروف - رعاية لحقوق الوالدين - لا يلزم من ذلك المحبة والموالاة والنصرة .
4. من العطاء الربَّاني :
يعرض القرآن الكريم لنموذجين من الناس الأول صنف من الناس أكرمهم الله سبحانه من عطائه الفياض لفضل آبائهم وإكراماً لهم ، فبفضل الله وبسبب الآباء عاش الأولاد في كنف الله سبحانه يتنعمون بعطائه من ذلك قصة الغلامين اللذين كان أبوهما صالحاً فخلفه الله في أولاده خيراً : (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك) (الكهف: 82) .
ويمنُّ الله سبحانه وتعالى على سيدنا يوسف فيقول : (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم) (يوسف: 6) .
فهذا نموذج لمن شكر الله سبحانه من الآباء فأورثها الله تعالى للأبناء، فشكروها أيضاً ، فكانوا خير سلف لخير خلف .
لكنْ ثمة نموذج معاكس للنموذج السابق يقول الله سبحانه في شأنه : (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر) (الأنبياء: 44) (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً) (الفرقان: 18) إنه نموذج لكفران نعم الله سبحانه ، وعدم رعاية حقها.
5. من مواقف يوم القيامة:
لا يُغفل القرآن في كل مناسبة أن يقف عند مشهد أو معلم من معالم يوم القيامة ليدخل الموعظة إلى قلوب المؤمنين فتُحدث تغيراً في سلوكهم ينقلهم إلى حال أفضل دائماً فهم دائماً في تجدد وترقٍّ وصعود .
إن الموقف الذي يعرض له القرآن الكريم لموقف مهيب توجل منه القلوب ، وتخشع له الجوارح ، وتذرف منه الدموع ، إنه (يوم يفرًّ المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه) (عبس : 34 - 37) .
إنه يوم لا أنساب بينهم ، ولكن أعمال وحساب ، أجارنا الله من خزي يومئذٍ.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة