الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الله أعْلَى وأجَّل

الله أعْلَى وأجَّل

الله أعْلَى وأجَّل

في غزوة أُحُد شاء الله أن يمتحن عباده المؤمنين ، ليميز الصادقين من المنافقين ، فحدث فيها ما حدث للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة الكرام ، من أحداث وآلام ، وتحول النصر إلى هزيمة .. وفي ذلك تأكيد لسنة الله في الصراع بين الإيمان والكفر ، والحق والباطل .. فقد جرت سنة الله في رسله وأتباعهم أن تكون الحرب سجالاً بينهم وبين أعدائهم ، ثم تكون لهم العاقبة في النهاية ، ولئن انتصر الباطل يوماً وكان له صولات وجولات ، إلا أن العاقبة للمتقين ، والغلبة للمؤمنين ، تلك هي سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ..

بعد أن انقشع غبار المعركة في أحد وانتهت بما انتهت إليه ، انطلق أبو سفيان ـ قبل إسلامه ـ إلى معسكر المسلمين ليتحقّق من موت خصومه وأعدائه ، ويتفقّد نتائج المعركة ، فسأل بأعلى صوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ..

يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه ـ :

( .. لقينا المشركين يومئذ ، وأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا من الرُّماة ، وأمَّرَ عليهم عبد الله بنَ جُبَير وقال : لا تبرحوا ، فإن رأيتمونا ظَهَرنا (انتصرنا) عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تُعِينونا ، فلما لقِينا هَرَبُوا ، حتى رأيتُ النساءَ يَشْتَدِدْنَ (يعدون) في الجَبَل ، رفعن عن سُوقِهِنَّ ، قد بَدَتْ خَلاخِيلُهنَّ ، فأخذوا يقولون : الغنيمة ، الغنيمةَ ، فقال عبد الله بنُ جُبير : عهد إليَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن لا تبرحوا ، فأبَوْا ، فلما أبَوْا صرفَ الله وجوهَهم (كناية عن الهزيمة) ، فأصيبَ سبعون قتيلا ، وأشرف (اطلع) أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تجيبوه ، قال : أفي القومابن أبي قُحافةَ ؟ ، فقال : لا تجيبوه ، قال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ ، فقال : إن هؤلاء قُتِلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا ، فلم يملك عمر نفسه فقال : كذبتَ يا عدوَّ الله ، أبْقَى الله لك ما يُحزنك ، قال أبو سفيان : أُعْلُ هُبَل (صنمهم الذي يعبدونه ) ؟ ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – أجيبوهُ ، قالوا : ما نقول ؟ ، قال : قولوا : الله أعلى وأجَلُّ ، قال أبو سفيان : لنا العُزَّى ، ولا عُزّى لكم ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أجيبوه ، قالوا : ما نقول؟ ، قال : قولوا : الله مولانا ولا مولَى لكم ، قال أبو سفيان : يوم بيومِ بدر، والحربُ سِجال (مرة ومرة) ، وتجدون مُثْلة (تشويه قتلى المسلمين) ، لم آمُرْ بها ولم تَسُؤْني .. )(البخاري) ..
وفي رواية قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : ( لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار )(أحمد) ..

في حوار أبي سفيان وسؤاله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم ، لأنهم يعلمون أنهم أهل الإسلام وأركان دولته ، وبهم قام صرحه ، ففي موتهم ـ كما يظن المشركون ـ قضاء على الإسلام ، وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيراً له ، حتى إذا ملأه الكبر والغرور والتفاخر بالكفر ، أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة وعزة ..

قال ابن حجر : " وفي هذا الحديث من الفوائد : منزلة أبي بكر وعمر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصوصيتهما به ، بحيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما ، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما .. وأنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها .. وفيه شؤم ارتكاب النهي وأنه يعم ضرره من لم يقع منه ، كما قال تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة }(الأنفال: من الآية25) .. وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه ، واستفيد من هذه الكائنة أخذ الصحابة الحذر من العود إلى مثلها ، والمبالغة في الطاعة ، والتحرز من العدو الذين كانوا يظهرون أنهم منهم وليسوا منهم ، وإلى ذلك أشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران أيضا : { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }(آل عمران: من الآية140)، إلى أن قال : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }(آل عمران:141)،وقال : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }(آل عمران: من الآية179) .." ..

وعن هذا الحوار الذي دار بين أبي سفيان وعمر بعد معركة أُحُد يقول ابن القيم في كتابه " زاد المعاد " :

" .. فأمرهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشركه ، تعظيماً للتوحيد ، وإعلاماً بعزة إله المسلمين ، وقوة جانبه ، وأنه لا يُغْلَب .. ولم يأمرهم بإجابته حين قال : أفيكم محمد؟ ، أفيكم ابن أبي قحافة ؟ ، أفيكم عمر ؟ ، بل روى انه نهاهم عن إجابته ، وقال: لا تجيبوه ، لأن كَلْمَهم (مصابهم) لم يكن بَرُدَ في طلب القوم ، ونار غيظهم بعد متوقدة ..
فلما قال لأصحابه : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، حَمِي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال : كذبت يا عدو الله ، فكان في هذا الإعلام من الإذلال ، والشجاعة وعدم الجبن ، والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذيهم بقوة القوم وبسالتهم ، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا ، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم ، وقد أبقى الله لهم ما يسؤوهم منهم ..
وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة ، وغيظ العدو وحزبه ، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحداً واحدا ، فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده ، فصبر له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استوفى كيده ، ثم انتدب له عمر فرد بسهام كيده عليه ، وكان ترك الجواب عليه أحسن ، وذكره ثانياً أحسن ..
وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأله عنهم إهانة له ، وتصغيراً لشأنه ، فلما منَّته نفسه موتهم ، وظن أنهم قد قُتِلوا ، وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل ، كان في جوابه إهانة له ، وتحقير وإذلال ، ولم يكن هذا مخالفا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( لا تجيبوه ) ، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل : أفيكم محمد ؟ ، أفيكم فلان؟ ، ولم ينه عن إجابته حين قال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولاً ، ولا أحسن من إجابته ثانياً .." .

لقد كانت غزوة أحد بكل أحداثها ـ قبل وأثناء وبعد المعركة ـ، ورغم ما فيها من آلام وجراح ، تربية للأمة في كل زمان ومكان، لما فيها من دروس وعبر ، تتوارثها الأجيال بعد الأجيال ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة