الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ

وصف الله تبارك وتعالى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأعظم الأوصاف التي تدل على رحمته بأمته وحرصه عليها، فقال سبحانه: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }(التوبة: 28 ). وكان هذا الحرص النبوي ـ للناس عامة ولأمته خاصة ـ نابعًا من شفقته ورحمته، فمن نعم الله علينا وعلى البشرية جميعا بعثة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال الله تعالى عنه : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }( الأنبياء:107) .
قال ابن كثير في تفسيره: " وقوله: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم " .

وإن المتأمل في سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد صورا كثيرة لحرصه الشديد على أمّته, والشفقة بها، والتيسير عليها، ورجاء أن تكونَ في ظل الرحمن وجنّته يوم القيامة ..
وقد ظهر حرص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أُمَّته منذ اللحظات الأُولى لبعثته ودعوته حين أمر أصحابه بالهجرة فرارا بدينهم، لمَّا رأى ما يصيبهم من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم، فقال لهم: ( لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ) رواه البيهقي .

ومن صور حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته خوفه عليهم من النار، ورغبته أن تكون أكثر أهل الجنة، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب ) رواه أحمد، وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أما ترضون أَن تَكونوا ربع أهلِ الْجنة؟، قَال : فَكَبَّرْنَا، ثم قَال: أَما تَرضون أَن تَكونوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجنة، قَالَ: فَكَبَّرْنَا ، ثم قَال : إني لأرجو أن تَكونوا شَطْرَ أَهْلِ الْجنة، وسأخبِركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إِلا كشعرةٍ بَيْضَاءَ في ثَوْرٍ أَسود أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَض ) رواه مسلم .

وكذلك من مظاهر حرصه بأمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ضحّى يوم عيد الأضحى عن نفسه وعن من لم يُضَحِّ من أمته، رحمة منه بالفقير الذي لا يستطيع أن يضحي، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ضحى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكبشين أقرنين أملحين، أحدهما عنه وعن أهل بيته، والآخر عنه وعن من لم يضح من أمته ) رواه ابن ماجه .

وامتدَّ حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورحمته بأمته حتى شمل جانب العبادات، ومن ذلك ما رواه مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - من تردده - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج - بين ربه ـ عز وجل ـ وبين موسى ـ عليه السلام ـ، وسؤاله لربه التخفيف في الصلاة حتى جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة بعد أن كانت خمسين شفقة على أمته .
وعن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: ( إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عند أضاة (غدير) بني غفار، قال: فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا ) رواه البخاري .
ومن ثم فكثيرا ما رأينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعرِض عن بعض الأعمال والعبادات - رغم حبه لها - لا لشيء إلاَّ لخوفه أن تُفْرَض على أُمَّته، فيشقّ عليهم، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( إن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليدع (يترك) العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ) رواه البخاري . وكان يقول: ( لولا أن أشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل ) رواه ابن ماجه .

ومن مظاهر حرصه ورحمته بأمته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه دعا بالرفق لمن ولِيَ أمرهم فرفق بهم، ودعا على من شقّ عليهم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشَقَّ عليهم فشُقَّ عليه ) رواه مسلم .

ومن صور حرصه كذلك أن دعوته لها بعدم الهلاك، فعن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( سأَلتُ ربِى ثَلاَثًا فَأَعطاني ثِنْتَيْنِ ومنعني واحدة، سأَلْتُ ربِى أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ (القحط) فَأَعطانِيها، وسألتُه أَن لاَ يهلك أُمتي بِالْغرقِ فَأَعطانِيها، وسألْته أَن لا يجعل بَأْسَهُمْ بينهم فَمَنَعَنِيهَا ) رواه مسلم .
ومن المواقف والكلمات العظيمة التي تبين مدى حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمَّته ورحمته وشفقته بهم، ما رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما ـ : ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلا قول الله تعالى في إبراهيم: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(إبراهيم: 36)، وقال عيسى ـ عليه السلام ـ: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(المائدة: 118)، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فَسَلْه ما يبكيك؟، فأتاه جبريل فسأله فأخبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ) رواه مسلم .

الشفاعة العظمى يوم القيامة :
في يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو منهم الشمس، حتى يبلغ عرقهم آذانهم، فإذا بلغ الغم والكرب منهم ما لا طاقة لهم به، كلم بعضهم بعضا في طلب من يشفع لهم عند ربهم، فلم يتعلقوا بنبي إلا قال: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، حتى ينتهوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فينطلق، فيشفع حتى يقضي الله تبارك وتعالى بين الخلق ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة ) رواه البخاري .

وفي حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال - صلى الله عليه وسلم ـ : ( إذا كان يوم القيامة ماج (اضطرب) الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا؛ فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول يا رب أمتي، أمتي فيقال انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله ) رواه البخاري .
وهكذا تتعد صور ومظاهر حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته ورحمته بها في السيرة النبوية ، ولم يؤثر عن نبي من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ذلك الحرص والحب الشديد لأمته كما أُثِر عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، فكم بين قول الرسل ـ عليهم السلام ـ: ( نفسي، نفسي )، وبين قول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أمتي، أمتي ) من معانٍ عظيمة، وصدق الله تعالى: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 28 ) .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة