الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الوليد بن عقبة وبنو المُصْطَلِق، وما نزل فيهما من القرآن

الوليد بن عقبة وبنو المُصْطَلِق، وما نزل فيهما من القرآن

الوليد بن عقبة وبنو المُصْطَلِق، وما نزل فيهما من القرآن

في السنة التاسعة من الهجرة النبوية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة رضي الله عنه إلى بني المصطلق لجمع وأخذ زكاتهم، إذ كانوا قد أسلموا، فلما علم بنو المصطلق بقدوم الوليد إليهم، خرج بعضهم لاستقباله، فلما رآهم الوليد رضي الله عنه فزع وخاف منهم، وظن أنهم يريدون حربه وقتله، فرجع مسرعاً إلى المدينة المنورة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما ظن، وفي هذه الواقعة نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6).

ويحدثنا الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه عن هذا الموقف فيقول: (قدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلتُ فيه وأقررتُ به، فدعاني إلى الزكاةِ فأقررتُ بها، وقلتُ: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعتُ زكاته، فيُرسل إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إبان كذا وكذا (وقت كذا، والمراد وقت حصول الثمرة) ليأتيك ما جمعتُ من الزكاة. فلمَّا جمع الحارث الزكاة ممَّن استجاب له، وبلغ الإبان (الوقت المحدد) الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليهِ الرسولُ فلم يأته، فظنَّ الحارثُ أنه قد حدث فيه سخطة من الله عزَّ وجلَّ ورسوله، فدَعَا بسرواتِ (أشراف) قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتًا يُرسل إليَّ رسوله ليَقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخُلْف، ولا أرَى حَبْسَ رسوله إلا من سخطةٍ (عدم رضا علينا) كانت، فانطَلِقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الوليدَ بن عقبة إلى الحارث ليَقبض ما كان عنده ممَّا جمع من الزكاة، فلمَّا أن سارَ الوليدُ حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَّ (خاف وفزع)، فرجع وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنَّ الحارث منعني الزكاة وأراد قَتْلي، فضرب رسولُ الله الله صلى الله عليه وسلم البَعْث (أرسل سرية) إلى الحارث، فأَقْبَلَ الحارثُ بأصحابه حتى إذا استقبل البَعْث وفَصَل من المدينة لَقِيَهُم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلمَّا غَشِيَهُم قال لهم: إلى من بُعِثْتُمْ؟ قالوا: إليك، قال: ولِمَ؟ قالوا إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليدَ بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردتَ قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيتهُ بَتَّة ولا أتاني، فلمَّا دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعتَ الزكاةَ وأردتَ قتلَ رسولي؟! قال: لا، والذي بعثك بالحقِّ ما رأيتُه ولا أتاني، وما أقبلتُ إلا حين احْتُبِس عليَّ رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خشيتُ أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسولِه، قال: فنزلتْ الحجرات: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات:6) رواه أحمد وصححه الألباني.

وفي السيرة النبوية لابن هشام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم (خاف منهم)، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذِكْر غزوهم، حتى همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم، فبينا هم على ذلك قدِمَ وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر (أسرع) راجعاً، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6)". وقال ابن سيد الناس في "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير": "وأسلم بنو المصطلق، ثم بعد ذلك بأزيد من عامين، بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدقاً (ليجمع صدقاتهم)، فخرجوا للقائه، فتوهم أنهم خرجوا لقتاله ففرَّ راجعا، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظنه، فهمَّ عليه السلام بقتالهم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} والتي بعدها". قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون ـ في نفس الأمر ـ كاذبا أو مخطئا .. وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده". وقال ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب": "ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمتُ أن قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} نزلت في الوليد بن عقبة". وقال البغوي في "معالم التنزيل في تفسير القرآن": " نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً (يجمع الصدقات)، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم (خاف منهم)، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وهذه الآية الكريمة وإن دلت وأكدت على وجوب التثبت من خبر الفاسق، إلا أنه لا يلزم من ذلك وصف الوليد بن عقبة رضي الله عنه بالفسق، لأن الوليد لم يتعمد الكذب، إذ لما رأى الحارثَ وقومَه من بني المصطلق ظن أنهم اجتمعوا لحربه وقتله، فرجع وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بما ظنه، قال الرازي: "ما ذكره المفسرون من أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة حين بعثه إلى بني المصطلق، إنْ كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبت من خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهو ضعيف، لأن الوليد لم يقصد الإساءة إليهم، وحديث أحمد يدل على أن الوليد خاف وفرق (فزع) حين رأى جماعة الحارث، فظن أنها خرجت لحربه، فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبره ظناً منه أنهم خرجوا لقتاله، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ "الفسق" على الوليد شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً". وقال الزرقاني: "ولا يُشْكَل تسميته فاسقا بإخباره عنهم بذلك على ظنه للعداوة ورؤية السيوف، وذلك لا يقتضي الفسق، لأن المراد الفسق اللغوي، وهو الخروج عن الطاعة، وسماه فاسقاً لإخباره بخلاف الواقع على المبعوث إليهم، لا الشرعي الذي هو من ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة، لعدالة الصحابة".

فائدة :

أجمع العلماء على عدالة الصحابة رضوان الله عليهم، ونقل هذا الإجماع غير واحد من الأئمة والعلماء من المتقدمين والمتأخرين، قال ابن الصلاح: "للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة".و قال العلائي: "الصحابة كلهم عدول .. ولا يقال فقد وقع من بعض الصحابة الكذب كما نقله أهل التفسير في قصة الوليد بن عقبة ونزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .. لأنا نقول إن سُلِّم صحة ذلك فهو نادر جداً لا أثر له، والحكم إنما هو للغالب المستفيض الشائع". وأهل السنة والجماعة لا يعتقدون عصمة الصحابة من الذنوب، ولكن لهم من الفضل والحسنات ما يفوق ما وقع من بعضهم من هنات وأخطاء. قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية: "وهم (أي: أهل السنة) مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يُغفر لهم من السيئات ما لا يُغْفَر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم خير القرون، وأن المُدَّ من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر عن أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفِرَ له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابْتُلِيَ ببلاء في الدنيا كُفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور". ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الكف عن ذكر مساويهم رضي الله عنهم، قال أحمد بن حنبل في بيان أصول اعتقاد أهل السنة: "ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بغضه بحدث منه أو ذكر مساويه كان مبتدعاً حتى يترحم عليهم جميعاً ويكون قلبه لهم سليماً".

دراسة السيرة النبوية تساعد على فهم وتفسير القرآن الكريم، إذ يتبين من خلال أحداثها ومواقفها أسباب نزول الكثير من القرآن، إذ أن كثيراً من الآيات القرآنية إنما تفسرها وتجليها المواقف والأحداث التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومما لا ريب فيه أن معرفة أسباب نزول الآيات ضروري لمن يتصدى لتفسير كلام الله عز وجل، لما هو معلوم من الارتباط بين السَبَب والمُسَّبِّب، قال الواحدي: "لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"، وقال ابن دقيق العيد: " بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن"، وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".. ومن ذلك ما حدث بين بني المصطلق والوليد بن عقبة رضي الله عنه، وكان سبباً في نزول قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6)".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة