الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ثُمَّ أنزل عليْكُمْ مِنْ بَعْد الغَمِّ أَمَنَةً نُعاسا

ثُمَّ أنزل عليْكُمْ مِنْ بَعْد الغَمِّ أَمَنَةً نُعاسا

ثُمَّ أنزل عليْكُمْ مِنْ بَعْد الغَمِّ أَمَنَةً نُعاسا

وقعت أحداث غزوة أحُد في الخامس عشر من شوال في السنة الثالثة من الهجرة النبوية، ولهذه الغزوة أهمية كبيرة في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، ومع ما فيها مِن آلام وجراح للمسلمين، إلا أنها لا تعتبر هزيمة، ومن الآيات القرآنية التي نزلت فيها قول الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران 142:140).. قال ابن حجر: "قال العلماء: وكان في قصة أحُد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة". وقال ابن تيمية: "قد تصيب المؤمنين بالله رسوله مصائب بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الله والرسول، كما لحقهم يوم أحُد بسبب ذنوبهم".

وعلى الرغم مما ابْتُلِيَ به الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة أحُد مِن مصائب وابتلاءات، إلا أن الله تعالى أكرمهم فيها بآيات عظيمة، كانَتْ مُعِيناً لهم على ثباتهم، ومقوية لهم في مِحْنَتِهم، ومن ذلك أنه لما نالهم من التعب ما نالهم، وأصابهم من الغمّ ما أصابهم، ألقى الله تعالى عليهم النُعاس، وهو النوم الخفيف اليسير، الذي من شأنه أن يزيل عنهم بعض متاعبهم، ويهديء من نفوسهم، ولا يغيبهم، لأنه لو كان نوماً ثقيلاً لهاجمهم المشركون، ومن ثم كان النعاس أمنة وكرامة من الله تعالى للمؤمنين، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}(آل عمران:154).
قال ابن كثير: "يقول تعالى مُمْتنّاً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان"، وقال السعدي: "ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة، لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس. وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هَمّ إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين". وعن قتادة، قوله:"{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}، وذاكم يوم أحُد، كانوا يومئذ فريقين، فأما المؤمنون فغشّاهم الله النعاس أمنةً منه ورحمة". وقال الطبري: "{أَمَنَةً} وهي الأمان، على أهل الإخلاص منكم واليقين، دون أهل النفاق والشك".

وعن أبي طلحة رضي الله عنه قال: (غَشِيَنا النُّعاسُ ونحن في مَصافِّنا (مواقفنا) يوم أُحُدٍ، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه) رواه البخاري. وفي رواية قال: (كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحُد حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه). قال القسطلاني: "أي في موقفنا (يوم أُحُد)، أمنة لأهل اليقين فينا، فينامون من غير خوف جازمين بأن الله سينصر رسوله وينجز له مأموله".
وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحُد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثا من النعاس). ويقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: "قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحُد حين اشتد علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره".
وأخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: (رفعت رأسي يوم أحُد، فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد (يميل) تحت حجفته (ترسه) من النعاس، فذلك قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}(آل عمران:154). قال الطبري: "قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان". وقال ابن القيم في زاد المعاد: "والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن، وهو من الله، وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان".

جنود الله التي يثبت وينصر بها عباده المؤمنين كثيرة، والنُعاس وهو النوم اليسير من هذه الجنود، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}(المدثر: 31)، قال ابن كثير: " أي: ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى"، وقال الطبري: "{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} من كثرتهم، {إلا هُوَ} يعني: الله".وقال السعدي: "فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم {إلا هُوَ}".. ومن المعلوم أنه ينعس من يشعر بالأمن، وأما الخائف فإنه يصعب عليه النوم، وقد أنزل الله تعالى النعاس على الصحابة رضوان الله عليهم في غزوتي بدر وأحُد أمَنةً لهم، ورحمةً بهم، ففي غزوة بدر قال الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}(الأنفال: 11)، قال القرطبي: "وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها, فكان النوم عجيباً مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، وكأن الله ربط جأشهم.. وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أنه أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم"، وفي غزوة أحُد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ}(آل عمران: 154)، قال ابن كثير في البداية والنهاية: ".. أُحُدَاً وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها: حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده، وتمام توكلها على خالقها وبارئها".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة