الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وقليل من عبادي الشكور

وقليل من عبادي الشكور

وقليل من عبادي الشكور

العبد في هذه الحياة يتقلب بين نعم من الله تترادف عليه فقيدها الشكر، ومحن يبتليه ربه بها ففرضها الصبر.. فمن عرف حق الله عليه في نعمه فشكرها، وواجبه في محنه فصبر لها ولم يتسخطها حاز الخير كله في الدنيا والآخرة. [عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له](رواه مسلم).

إن من أجل العبادات أثرا على القلب، وشرحا للصدر، ورضا في النفس.. عبادة الشكر.

والشكر نصف الدين.. والصبر نصفه الآخر.. ولذلك قال عمر: لو أن الشكر والصبر مطيتان لم أبال أيتهما أركب.
والشكر معناه: عكوف القلب على محبة المنعم. وقيل: أن تعترف أنك لا تستحق النعمة. وقيل: شيء في القلب يترجمه اللسان نطقا، وتحوله الجوارح فعلا. ولذلك كانت أركان الشكر ثلاثة:
الاعتراف بالنعمة باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وتصريفها في طاعة مسديها.
فالشكر بالقلب، واللسان، والجوارح.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة .. يدي ولساني والضمير المحجبا

الله يحب أن يشكر
إن الله تعالى يحب أن يشكر على نعمه، ويحب الشاكرين من خلقه؛ ولذلك عدد نعمه عليهم، وذكرهم بإحسانه إليهم، وبفضله عليهم، وحسن بلائه فيهم، ورعايته لهم وقيامه عليهم.. سواء في ذلك ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، مؤمنهم وكافرهم، وعاصيهم وطائعهم... الكل يتقلبون في نعمه، ويسبحون في فضله، ويتنعمون في ظل كرمه، لا نعمة عندهم إلا وهي منه {وما بكم من نعمة فمن الله}(سورة النحل:).

فلما كانت النعم كلها منه وحده أحب أن يشكر عليها، وأمر عباده بشكره في آيات كثيرة: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}، {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله}، {فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون}، {كلوا من رزق ربكم واشكروا له}، {اعملوا آل داود شكرا}، {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}.

استخراج الشكر بالنعم
وكم من نعمة أنعم بها ليستخرج بها الشكر من عباده.. {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}.
وقال في بدر: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}.
وقال سبحانه: (وهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
وقال: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

وجاء في معجم الطبراني بسند صحيح عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليس أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أكثر معاذير من الله].

ومع استحقاقه سبحانه لكل مدح وحمد إلا أنه أجزل للشاكرين المثوبة وقطع بها لهم تأكيدا فقال: {وسنجزي الشاكرين{وسيجزي الله الشاكرين}، {لئن شكرتم لأزيدنكم}. فسبحان من ينعم بالشكر ثم يجازي عليه إن ربنا لغفور شكور.

ثانيا: لماذا القصور في الشكر؟!
إن المتصفح لحال الناس يجد أكثرهم جاحدين لنعم الله، متبرمين كثيري التشكي، وأن أقلهم هم الشاكرون المعترفون بفضل الله عليهم وإنعامه، وقد أثبت الله هذا في كتابه لما تكلم عن الشاكرين قال: {وقليل من عبادي الشكور}.
فلماذا قل الشاكرون؟! ولماذا كلت الألسنة عن اللهج بالحمد لله وشكر نعمائه، إن كان ذلك لأمور
:

أولها: الغفلة عن النعمة:
كأن تكون نعمة عامة ومستمرة؛ فيعتادها الناس ولا يلتفتون إليها: كالشمس والقمر، والليل والنهار، والماء والهواء، والكواكب والنجوم، والشجر والثمار.. كلها آيات منسية وهي نعمة وأي نعمة!! {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

ثانيها: الجهل بقدر النعمة:
خصوصا إذا كانت مبذولة لكل الناس أو أكثرهم، فلا يعرف الإنسان قدرها إلا إذا فقدها. قال بعضهم: "النعمة من الله على عباده مجهولة فإذا فقدت عرفت".
فالبصر نعمة لا يعرف قدرها إلا العميان، والسمع نعمة لا يعرف قدرها إلا كل أبكم. والعافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفه إلا المرضى.

إن بعض الناس لا يرى النعمة إلا في المال والطعام والشراب وهذا جهل. قال الحسن: من لا يرى لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو ملبس فقد قصر علمه وحضر عذابه.
جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم؟ قال لا. فبيديك مائة ألف؟ قال لا. قال: فبرجليك؟ قال لا.... فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة.
إن سلامة عقلك نعمة ـ وسلامة كبدك نعمة ـ وسلامة قلبك نعمة ـ ولسانك ـ وعينك ـ وزوجك العفيفة نعمة، وولدك الصالح نعمة، والبيت نعمة، والسيارة نعمة، والعمل نعمة، وكل ما حولك نعم أنتم غارقون فيها {فاشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون}.

ثالثها: دوام التطلع إلى ما عند الناس:
وهذا يورث استصغار نعمتك، ويوقد حسد القلب، والنقمة على الله، وعدم الرضا.
ثم ما يدريك هل تكون هذه النعمة منحة أو محنة؟! وإذا جاءتك فهل تغنيك أم تطغيك.
يقول أبو حازم: نعمة الله علي فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطاها قوما فهلكوا.. وكل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية.. وإذا رأيت الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاعلم أنه استدراج.

رابعها: نسيان الماضي:
وآه من نسيان الماضي...
كنت فقيرا فأغناك، لا تجد فأعطاك، عائلا فأغناك، ضالا فهداك، عزبا فزوجك.. فلا تنس كل هذا. وقل كما كان محارب بن دثار يدعو ربه ويقول: "أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، أنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، أنا الغريب الذي آويته فلك الحمد، أنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد، أنا العزب الذي زوجته فلك الحمد، أنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، أنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، أنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، أنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد.

أنت الذي أطعمتني وسقيـــتني .. .. من غيــر كـسب يـد ولا دكان
وجبرتني وسترتني ونصرتني .. .. وغمرتني بالفــضل والإحسان
أنت الذي آويـتـني وحــبوتـني .. .. وهديـتني من حــيرة الخــذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة .. .. والعطـف منك برحـمة وحنـان
ونشرت لي في العالمين محاسنا ..وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذكري في البرية شائعا .. ..حتى جعـــلت جميعهم إخواني
والله لو علــموا قبـيح سريرتي .. .. لأبى الســلام علي من يلقـاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.. .. ولبؤت بعــد كــرامة بهـــوان
لكن ســترت معـايبي ومثـالــبي..وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحــامد والمدائــح كلــها .. .. بخواطري وجوارحي ولساني

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد