الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الخيانة

الخيانة

الخيانة

حين يعهد إنسان إلى آخر بسرٍ ويأتمنه عليه ، ثم يقوم الأخير بإفشائه فقد خان الأمانة .
وإذا أودع إنسانٌ آخر وديعة على سبيل الأمانة فأهلمها، أو لم يحفظها فقد خان الأمانة .
وإذا عاهد إنسان آخر عهدًا فنقضه فقد خان الأمانة، وإذا عصى الإنسانُ ربه واستمر على المعصية ولم يتب فقد خان الأمانة.
هذه كلها صور من صور الخيانة، وذلك الخلق الرذيل، الذي يدل على ضعف الإيمان، ووضاعة النفس.
وحين يستشير الرجل أخاه فيشير عليه عمدا بغير الصواب فقد خانه، قال - صلى الله عليه وسلم - : "... ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشدٍ فقد خانه" ، فالمستشار مؤتمن ، فإن أشار بخلاف ما يرى أنه الأصلح فقد خان.

ومن صور الخيانة أن يوسَّد الأمر إلى غير أهله، فلا يكون المعيار كفاءة الرجا ، وإنما القرابة أو المحبة أو غيرها.
وإذا سادت المجتمعات الإسلامية هذه الآفة فقد ضُيعت الأمانة، وعندها تقترب الساعة، قال - صلى الله عليه وسلم - : "فإذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة" قيل : كيف إضاعتها ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (رواه البخاري).

والخيانة من كبائر الذنوب، بل هي من النفاق العملي :"آية المنافق ثلاث ، إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان".
قال الذهبيُّ رحمه الله: "والخيانة قبيحة في كلِّ شَيء، وبعضُها شَرٌّ من بعض، وليس من خَانك في فلْس كمن خانك في أهلك ومالك، وارتكب العظائم".

والخائن بغيض إلى الله بغيض إلى الناس ، فقد أكَّد الله تعالى في كتابه عدم محبته ورضاه عن الخائنين عمومًا، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ }(الأنفال: 58)، وخصَّ بعدم الرِّضا والمحبَّة أولئك الذين صارت خيانة العهود والعقود لهم خُلقاً وطبعاً فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} ( الحج: 38 ). وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (النساء:107). والخوَّان هو الذي تتكرر منه الخيانة بحيث صارت خلقا ملازما له.

وحين يؤتمن الخائن، ويخوَّن الأمين، فقد أتى على الناس السنون الخداعة التي حذر منها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : "سيأتي على الناس سنون يُصدق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويخوَّن الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيها الرويبضة " قيل : يا رسول الله ، وما الرويبضة ؟ قال : "السفيه يتكلم في أمر العامة".

من صفاتهم تعرفهم:

فمن أهم صفات الخائنين:
ضلال سعيه وبعده عن الهداية:
فالخيانة بكلِّ معانيها واستعمالاتها تدلُّ على النقص والانحراف عن الحقِّ، والخائن ليس أهلاً للهداية والاهتداء، قال تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } (يوسف: 52) أي: لا ينفذ الله كيده ولا يُسدِّدُه، بل يبطله ويزهقه، فقد جرت سُنَّة الله في الكون على أنَّ فنون الباطل وإن راجت أوائلُها لا تلبث أن تنقشع.

الكيد والتآمر في الخفاء:
فقد أثبت الله تعالى للخائنين كيداً فقال: { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } (يوسف: 52) إلَّا أنه لا يُنْفِذُ كيدهم ولا يُسدِّدُه، وبعد أن نهى الله تعالى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن المجادلة عن أهل الخيانة، وأكد عدم رضاه ومحبته لهم، أخبرنا بحقيقة حالهم، وكمائن مكرهم، فقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } (النساء: 107 – 108) أي: يستتر هؤلاء الذين يختانون أنفسهم من الناس، حياءً منهم وحذرًا من قبيح الأحدوثة، ولا يستترون من الله الذي يعلم سِرَّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شيء من حالهم وأعمالهم، فهو أحق أن يُستحي منه من غيره، وأولى أن يُعظَّم، والله مطَّلع على ما يدبِّرون ويُزَوِّرُون مما لا يرضاه من القول، من رمي البريء، والحلف الكاذب، وشهادة الزور، وغير ذلك، { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } أي: لا يفوته شيء منهم، وهو تهديد ووعيد لهم.

لا عهد ولا أمانة:
هكذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الخيانة للعهود والأمانات، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُوشِك أن يأتي زمانٌ يُغَربَل النَّاسُ فيه غَربلةً، تبقى حُثَالةٌ من النَّاس قد مَرِجَت عهودُهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا"، وشبك بين أصابعه، فقالوا كيف بنا يارسول الله؟ قال: "تأخذون ما تعرفون، وتَذَرُون ما تُنكِرُون، وتُقْبِلُون على أمر خاصَّتكم، وتَذَرُون أمرَ عامَّتِكم" (أبو داود وغيره). وأَراد بحُثَالة الناس: أراذالهم وشِرَارَهم ، و"مرِجت عهودهم" أي: اختلطت وفسدت، فقلَّت فيهم أسباب الديانات، وقيل: "مرِجت عهودهم" إذا لم تثبت، وأمرجوها: إذا لم يوفوا بها ، ومرجت أمانتهم: فسدت، وقوله: "هكذا، وشبك بين أصابعه" أي: يموج بعضهم في بعض، ويلتبس أمر دينهم، فلا يُعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر.

عاقبة الخائنين في الدنيا والآخرة

تمكين المؤمنين منهم:
قال تعالى: { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (الأنفال: 71) أي: إن كفروا بك فقد كفروا بالله من قبل فأمكن منهم المؤمنين ببدر، وأتاكم بهم على غير ترقُّب منكم فسلطكم عليهم، حتى قتلتموهم وأسرتموهم.

تسليط الأعداء عليهم وانتشار القتل فيهم:
فمن صور الخيانة نقض العهود ، وقد جعل الله جزاءه تسلط الأعداء وفشو القتل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقضَ قومٌ العهد إلَّا سَلَّط عليهم عدوهم". أي: ما نقضوا ما عاهدوا الله عليه أو ما عاهدوا عليه قومًا آخرين، "إلا سلَّط عليهم عدوهم" جزاء بما اجترحوه من نقض العهد المأمور بالوفاء به، وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا نقض قومٌ العهد قطُّ إلّا كان القتلُ بينَهم".

القصاص من الخائن يوم القيامة:
فحقُّ المجاهد على القاعد أن يرعى أهله في غيبته، ويحسن إليهنَّ، ويقضي لهن حوائجهن، بما لا يترتب عليه مفسدة ولا يُتَوصَّل به إلى ريبة، فعن بُريدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حُرْمَةُ نِسَاءِ المـُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، مَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ القَاعِدِيْنَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ المـُجَاهِدِينَ في أهْلِهِ، فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَرْضى"، ثُمَّ التَفَتَ إلَيْنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا ظَنُّكُمْ ؟".
فيحرم التَّعرض لهنَّ بريبة، من نحو نظر محرَّم وخلوة وحديث محرَّم وغير ذلك، فإن خان القاعد المجاهد أوقفه الله له يوم القيامة، فتقول له الملائكة بإذن ربهم: قد خانك هذا الإنسان في أهلك، فخذ من حسناته ما شئت، فيأخذ من عمله الصالح ما شاء.
وقوله: "فما ظنُّكم؟" فيه تهديد عظيم، أي: فما ظنكم بمن أحلَّه الله تعالى هذه المنزلة، وخصَّه بهذه الفضيلة، أو فما تظنون بالله مع ارتكاب هذه الخيانة، هل تتركون معها؟ وهل تشكون في هذه المجازاة؟ فإذا علمتم صدق ما أقول، فاحذروا من الخيانة في نساء المجاهدين.

فضيحة الخائنين يوم القيامة أمام الخلق:
فالخائنون الغادرون سيُفضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمعَ اللهُ الأوَّلين والآخِرين يومَ القِيَامة يَرفعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاء، فقيل هذه: غَدْرَة فُلان بن فلان"، أي: أنَّ الغادر يُنصب وراءه لواء غدره يوم القيامة، تشهيرًا بالغدر وإخزاءً وتفضيحًا على رؤوس الأشهاد، ثم يقال: هذه علامة غدرة فلان، فيشتهر بين الناس ويفتضح، والغدر في الأصل ترك الوفاء وهو شائع في أن يغتال الرجل من في عهده وأمنه. ولما كان الغدر مكتوماً ومستتراً به شُهر به صاحبه، وكشف ستره لتتم فضيحته.

عدم دخول الجنَّة مع أهلها:
فمن غش المسلمين وخانهم، وخان الأمانة لا يكون في الداخلين الأولين إلى جنات النعيم، فعن أَبي يعلى مَعْقِل بن يَسارٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَستَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّة".
قال القاضي عياض: "ومعناه بَيّن فى التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله شيئاً من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه خليفة لمصلحتهم، وجعله واسطة بينه وبينهم فى تدبير أمورهم فى دينهم ودنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه ولم ينصح فيما قُلِّده واستخلف عليه، إما بتضييع لتعريفهم ما يلزمُهم من دينهم وأخذهم به والقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لكل مُتَصَد لإدخال داخِلَةٍ فيها، أو تحريف لمعانيها، أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حوذتهم ومجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم - فقد غشهم".
وقوله: "إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّة" أي: دخولها مع الفائزين الناجين لكفرانه نعمة الإمارة والاسترعاء وغشه لمن تحت يده، أو مطلقاً إن اعتقد حلَّ غش المسلمين وخيانتهم.
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "وأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: .. وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ.."
وقوله: " وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ" أي: يخادعك بسبب أهلك ومالك، أي: طامع في مالك وأهلك، فيظهر عندك الأمانة والعفَّة ويخون فيهما.

ولأن الخيانة داء عضال وخلق ذميم بغيض، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله منه : "...وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة".
ولو نظرنا إلى الشرع المطهر لوجدنا أنه زجر عن هذا الخلق القبيح ، ولو من باب رد الفعل : "أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك ". (رواه أبو داود وغيره).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة