
عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار، ولم تكن هذه المؤاخاة شعاراً لا أثر ولا حقيقة له، بل كانت واقعاً عملياً قائما على الإيمان بالله والحب فيه سبحانه، وقد شهد الله عز وجل للأنصار بالإيمان والإيثار وحب الأضياف المهاجرين، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}(الحشر:9). وقد قام الأنصار بحقوق إخوانهم من المهاجرين، واستطاعوا أن يستضيفوا في بيوتهم الكثير منهم، وأن يشاركوهم النفقة. ولكن مع استمرار وكثرة تدفُّق المهاجرين إلى المدينة المنورة، لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم، ومن ثم فكل من لم يتيسر له أحد يكفله من الأنصار، أو مكان يأوي إليه، كان يأوي إلى المسجد النبوي مؤقتا ريثما يجد السبيل، وهؤلاء هم الذين عُرِفوا بأهل الصُفَّة وأضياف الإسلام.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "وأهل الصُّفَّة أضْياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد". وقال القاضي عياض: "الصُّفَّة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأوي إليها المساكين، وإليها ينسب أهل الصفة"، وقال ابن حجر: "الصُّفَّة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل". وقال ابن تيمية: "أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصُّفَّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه". وقال ابن الأثير: "هم فقراء المهاجرين، ولم يكن لواحد منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه".
رعاية النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامه بأهل الصُفَّة:
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعهد أهل الصُّفَّة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم، ويكثر من مجالستهم، ويذكرهم ويعلمهم، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً. عن عثمان بن اليمان رضي الله عنه قال: "لما كثر المهاجرون بالمدينة، ولم يكن لهم دار ولا مأوى، أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وسماهم أصحاب الصُّفَّة، فكان يجالسهم، ويأنس بهم" رواه البيهقي.
وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها معهم وأشركهم فيها، وكثيرًا ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أزواجه.. وكان إذا أتته صدقة بعث بها إلى أهل الصفة ولم يتناول منها شيئا، فمما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تحل له الصدقة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتِيَ بطعام سأل عنه أهديّة أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل: هديّة ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) رواه البخاري.
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: (أمرني النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أدعو له أهل الصُّفَّة، فجعَلْتُ أتتبَّعُهم في المسجد رجُلًا رجُلًا أُوقِظُهم، فأتَيْنا بابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فدخَلْنا، فوُضِعَتْ بَيْنَ أيدينا صَحْفةُ صَنيعٍ قَدْرَ مُدَّيْنِ شعيرٍ، فقال لنا: كُلوا بِسمِ الله، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين وُضِعَت الصَّحْفَة: والَّذي نفسُ مُحمَّدٍ بيدِه، ما في آلِ مُحمَّدٍ قيس شيءٍ غيرَ ما ترَوْنه، فأكلْنا حتَّى شبِعْنا وبقِي منها بقيَّة، وكنَّا ما بَيْنَ السَّبعينَ إلى الثَّمانين) رواه الطبراني.
ويصف أبو هريرة رضي الله عنه حال أهل الصفة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهم فيقول: (إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هِر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق بنا. ومضى فاتبعته فدخل فأستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان الأنصاري، قال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم بُد (مفر)، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هِر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم. قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليَّ القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت؟! قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة (ما تبَقَّى)) رواه البخاري.
ويصف كذلك عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه هذا الاهتمام النبوي بأهل الصُّفَّة فيقول: (إن أصحاب الصُّفَّة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم مرّة قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس - أو كما قال - وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة) رواه البخاري. قال ابن تيميَّة: "ولم يكن جميع أهل الصُّفَّة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له، ويجيء ناس بعد ناس فكانوا تارة يقلون، وتارة يكثرون".
وقد بلغ اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الصُّفَّة أنه كان يقدم حاجتهم على غيرها مما يُطلب منه، ولو كان الذي يطلب هذه الحاجة ابنته فاطمة رضي الله عنها، فقد أُتِيَ صلى الله عليه وسلم بسبي (أسرى) مرة فأتته فاطمة رضي الله عنها تسأله خادماً، فكان جوابه: (والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم) رواه أحمد. قال ابن هبيرة: "ومن الفوائد: أنه إذا حصل ازدحام في الحقوق فإنه يؤثر صاحب الحق الأقوى والأعظم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها لما طلبت خادماً من السبي الذي جاءه: (والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم)".
لم يكن فقر أهل الصُفَّة لقعودهم أو تكاسلهم عن العمل وكسب الرزق، فقد كانوا يرضخون (يكسرون) النوى بالنهار لعلف الماشية لكسب الرزق، قال ابن الجوزي: "هؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة، وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة، فلما فتح الله على المسلمين، استغنوا عن تلك الحال وخرجوا". وكان أهل الصفة من المجاهدين في سبيل الله، وقد استشهد بعضهم في بدر وأحُد، ويصف أبو نعيم أهل الصُفَّة قائلا: "هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض، وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحوا إلا أُيِّدُوا به مِنَ العُقْبَى".