الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

آداب الاسْتِئْذان في الهَدْي النبَوي

آداب الاسْتِئْذان في الهَدْي النبَوي

آداب الاسْتِئْذان في الهَدْي النبَوي

الاسْتِئْذان هو طلب الإذن بالدخول لبيت لا يملكه المُسْتَأذِن، خوفاً من الاطلاع على العورات، أو وقوع النظر على ما لا يرغبه صاحب البيت، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}(النور:27)، قال ابن كثير: "هذه آداب شرعية، أدَّب الله بها عباده المؤمنين"، وقال السعدي: "يرشد الباري عباده المؤمنين، أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان، فإن في ذلك عدة مفاسد: منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إنما جُعِل الاستئذان مِنْ أجل البصر)، فبسبب الإخلال به، يقع البصر على العورات التي داخل البيوت، فإن البيت للإنسان في ستر عورة ما وراءه، بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده".
والاستئذان كما فيه صيانة لعِرْض الغير وعوراته وخصوصياته، فيه حفظ لمشاعر المستأذِن والمستأذَن عليه، سواء كان المستأذِن قريباً للمستأذَن عليه، أو أجنبياً عنه.. وهناك الكثير من الآداب النبوية التي علمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الاستئذان، منها: طريقة الاستئذان، وعدم وقوف المستأذن مقابل الباب، والسلام قبل الاستئذان، والاستئذان ثلاث مرات، ورجوع المُسْتَأْذِن إذا لم يؤذَن له، وإفصاح المستأذِن عن اسمه وعدم الاستئذان بقوله: أنا، واستئذان الأطفال والأبناء داخل البيت..

والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف التي علَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه مِنْ خلالها آداب الاستئذان، ومِنْ ذلك:
1 ـ طريقة الاستئذان وقول السلام عليكم:
عن رِبْعِيِّ بن حِرَاشٍ قال: حدثنا رجل من بني عامر قال: (إنه أستأذَن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج ـ يعني: أأدخل ـ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، وقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل، فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له، فدخل) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن كلدة بن الحنبلي: (أن صفوان بن أمية بعثه بِلَبَنٍ وَجِدايَةٍ (ولد الظبي، بمنزلة الجدي من الغنم) وَضَغابِيسَ (القثاء الصغير) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلتُ عليه ولم أسَلِّم ولمْ أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟) رواه الترمذي وصححه الألباني.
2 ـ عدم وقوف المستأذِن مُقابِل الباب:
ينبغي ألاّ يقف المُسْتَأذِن مقابل الباب إذا كان الباب مفتوحاً، وكذلك إذا كان مغلقاً خشية أن يُفتح له فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه، وهذا بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه، أو عن يساره، فإنه إذا فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت. فعن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور) رواه الترمذي وصححه الألباني. وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: (جئتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتٍ، فقمتُ (وقفت) مقابل الباب فاستأذنتُ، فأشارَ إلَيَّ أن تباعد، ثم جئتُ فاستأذنتُ، فقال: وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟!) رواه الطبراني. وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحِلُّ لامرئٍ مسلمٍ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل (أي: إذا نظر بعينه فكأنه دخل)) رواه الترمذي وحسنه الألباني. وعن هُزَيْل بن شُرْحَبيل قال: (جاء رجل فوقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن مُسْتَقْبِل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا عنك؟ فإنما الاستئذان من أجل النظر) رواه أبو داود وصححه الألباني. فالمستأذِن لا يقف أمام البيت، ويقف بجانبه، بحيث يراعي حُرْمَة البيت، فإذا فتح الباب فلا يرى شيئاً في داخل البيت، وفي نفس الوقت لا يذهب المُسْتَأْذِنُ بعيداً عن الباب تماماً، لأنه ربما لا يسمعه أو يراه المستأذَن عليه.
3 ـ السلام قبل الاستئذان:
عن ابن بريدة قال: (استأذن رجل على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على الباب، فقال: أأدخل؟ ثلاث مرات، وهو ينظر إليه، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال: ادخل، ثم قال: لو قمتَ إلى الليل تقول: أأدخل؟ ما أذِنْتُ لك، حتى تبدأ بالسلام) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وعن رِبْعي بن حِراش رضي الله عنه قال: حدثني رجل من بني عامر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: اخرجي فقولي له: قل: السلام عليكم، أأدخل، فإنه لم يحسن الاستئذان، قال: فسمعتُها قبل أن تخرج إلي الجارية، فقلت: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال: وعليك، ادخل. قال: فدخلت) رواه أحمد وصححه الألباني. قال الألباني: "وفيه دليل صريح على أن مِنْ أدب الاستئذان في الدخول البدء بالسلام قبل الاستئذان، وفي ذلك أحاديث أخرى بعضها أصرح مِنْ هذا.. ويؤيده ما رواه البخاري في أدبه بسند صحيح عن عطاء عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: (لا يُؤْذن له حتى يبدأ بالسلام). وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام، قال الشنقيطي: "ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم مُقَدَّم على غيره، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان، وتقديم الاستئناس ـ الذي هو الاستئذان ـ على السلام في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا}(النور:27)، لا يدل على تقديم الاستئذان، لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك". وقال ابن كثير: "وقال العوفي عن ابن عباس: الاستئناس: الاستئذان. وكذا قال غير واحد".
4 ـ الاستئذان ثلاث مرات:
الاستئذان يكون ثلاث مرات، ويقول المُسْتَأْذِن في كل واحدة منها: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن لم يؤذَن له عند الثالثة فليرجع، ولا يزد على الثلاث، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنتُ في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى رضي الله عنه كأنه مذعور، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثاً فلم يؤذَن لي، فرجعتُ، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذَن له فليرجع) رواه البخاري. وعن قتادة في معنى قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}(النور:27) قال: هو الاستئذان ثلاثاً". وقال ابن عبد البر في التمهيد: "وقال بعضهم: المرة الأولى من الاستئذان: استئذان، والمرة الثانية: مشورة، هل يؤذن في الدخول أمْ لا؟ والثالثة: علامة الرجوع، ولا يزيد على ذلك على ثلاث"، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "وحكمة التعداد في الاستئذان أن الأولى: استعلام، والثانية: تأكيد، والثالثة: إعذار".
5 ـ رجوع المستأذِن إذا لم يؤذَن له:
اعتذار صاحب البيت عن الإذن بدخول المستأذِن إما أن يكون اعتذاراً ضمنياً، وإما أن يكون صريحاً، وقد دلّ قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا}(النور:28) على حالة الاعتذار الضمني، فربما كان صاحب البيت موجوداً في البيت، لكنه لم يشأ أن يرد على المستأذِن، أو يفتح له الباب، فيصدق على المستأذِن أنه لم يجد فيها أحداً، وفي حديث أبي سعيد: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) رواه البخاري. أما الاعتذار الصريح إذا استأذن شخص ثلاثاً أو أقل وأجيب بقول صاحب الدار: ارجع، فالواجب أن ينصرف وهو على يقين أن هذا أفضل له، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}(النور:28). قال ابن كثير: "أي: إذا ردّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي: رجوعكم أزكى لكم وأطهر"، وقال السعدي: "أي: فلا تمتنعوا من الرجوع، ولا تغضبوا منه، فإن صاحب المنزل، لم يمنعكم حقا واجبا لكم، وإنما هو مُتبرِِّع، فإن شاء أذِنَ أو منع، فأنتم لا يأخذ أحدكم الكِبْر والاشمئزاز من هذه الحال، {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي: أشد لتطهيركم من السيئات، وتنميتكم بالحسنات".
6 ـ استئذان الأطفال والأبناء داخل البيت:
على الآباء أن يُعَوِّدوا أولادهم على الاستئذان، فإذا كان الهدْي النبوي أوجب الاستئذان لمن أراد أن يدخل بيت غيره، وحرَّم عليه أن يطلع على بيت غيره بدون إذن أهله، فقد أوجب كذلك الاستئذان في داخل البيت نفسه، كالاستئذان على الأم والأخت، لئلا تكون هناك عورة منكشفة، فعن عطاء بن يسار أن رجلا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: (أستأذن على أمي؟ قال: نعم، فقال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذِن عليها، فقال الرجل: إني أخدمها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، أتحب أن تراها عُرْيَانَة؟! قال: لا، قال: فاستأذِن عليها) رواه مالك في الموطأ، وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهما.. قال ابن حجر في "فتح الباري": "وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع: "كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن"، ومن طريق علقمة: "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟! فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها"، ومن طريق مسلم بن نذير ـ بالنون مصغر ـ سأل رجل حذيفة: "أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيتَ ما تكره".

فائدة: قول (أنا) في الاستئذان وغيره:
عن جابر رضي الله عنه قال: (أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في دَيْن كان على أبي، فدققتُ الباب، فقال: من ذا؟ قلتُ: أنا، فقال: أنا، أنا، كأنه كرهها) رواه البخاري، وإنما كره ذلك لأن هذه الكلمة "أنا" لا يعرف صاحب البيت مِنْ خلالها مَنِ الذي يطرق بابه ويستأذن، قال ابن حجر: "قال المهلب: إنما كره قول: "أنا" لأنه ليس فيه بيان، إلا إن كان المستأذِن ممن يعرف المستأذَن عليه صوته ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس".
والحكم على كلمة (أنا) ليس على إطلاقه، فأحياناً يجوز استعمالها، وأحياناً لا يجوز استعمالها، فلا يجوز استعمالها في أمر الاستئذان، لأنه لا يحصل بها المقصود من الاستئذان، ولذلك استنكرها وكرهها النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث جابر وقوله: (أنا، أنا؟!).. ولا يجوز أيضاً أن يستعملها الإنسان في الزهو، أو الفخر، نحو: أنا الذي عملتُ، وأنا الذي صنعتُ وما شابه ذلك من عبارات، ولذلك يقول ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": "وليحذر كل الحذر من طغيان ثلاث كلمات: من طغيان: أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون وقارون.. فـ {أنَا خَيْرٌ مِنْهُ}(الأعراف: 12) لإبليس، و{لي مُلْكُ مِصْرَ}(الزخرف: 51) لفرعون، و{إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(القصص: 78) لقارون".
ويجوز استخدام كلمة (أنا) في الكلام، ولا حرج من استعمالها في موضعها المناسب لها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا) في أحاديث كثيرة، مثل قوله: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) رواه البخاري. وقوله أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) رواه ابن ماجه وصححه الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا ..) رواه مسلم. فقول أبي بكر (أنا) لا محذور فيه، لأنّه كان حاضراً في المجلس ويرونه، بخلاف ما لو كان في الاستئذان. وعن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد وأبو موسى يقرأ، قال: فجئتُ فقال: مَنْ هذا؟ قلتُ: أنا بريدة) رواه الحاكم. وفي البخاري مِنْ حديث أم هانيء: (فقلتُ: أنا أم هانيء). قال ابن القيم: "وأحسن ما وُضِعَت: "أنا" في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطيء، المستغفر، المعترف ونحوه".

البيوت حَرَمٌ آمِن لأهلها وأصحابها، لا يدخلها أحد إلا بعلمهم وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وقد بيّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه المسلم مِنْ آداب الاستئذان، وفي ثنايا التوجيهات والسنن النبويّة، يظهر لنا حرصه صلى الله عليه وسلم على حِفظ الأعراض والعورات، ومراعاة مشاعر الناس، واحترام خصوصياتهم..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة