الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تدوين السنة في العهد النبوي

تدوين السنة في العهد النبوي

تدوين السنة في العهد النبوي

كثيرا ما تثار الشبهات حول السنة وتاريخ تدوينها وجمعها وكتابتها، وكثيرا أيضا ما يتخذ ذلك تكأة للطعن في السنة برمتها، وهو لا شك أنه طعن في الدين كله، وهدم له من أساسه.
وأعداء الدين بكل طوائفهم، والكارهون له ممن يزعم الانتساب إليه، ومعهم الجاهلون من أهله، كلهم يجعلون الطعن في السنة وتاريخ تدوينها بابا يدخلون منه ويتسربون من خلاله للطعن في الدين كله وفي السنة خاصة.. فهل فعلا لم يتم جمع السنة في عهد النبوة، وأنه لم يبدأ التدوين إلا بعد قرابة مائتي عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن أول من كتبها؟ وما هو الحق في موضوع كتابة الأحاديث وبداية التدوين؟

الفارق بين التدوين والكتابة
لا يختلف أحد من أهل التاريخ وأساطين العلم على أن السنة لم تدون في دواوين خاصة وأسفار وكتب مخصوصة بالحديث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حتى في عهد الصحابة الكبار وكبار التابعين، وإنما بدأ هذا التدوين بمعناه الصحيح والمتعارف عليه في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بجمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار للقيام بهذه المهمة أهل العلم والثقة والإتقان وعلى رأسهم الإمام الزهري وغيره.

وأما في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تدوين الصحابة لحديث رسول الله وكتابتهم له مر بمرحلتين هامتين:
أولهما: مرحلة النهي عن الكتابة.
ثانيهما: مرحلة السماح بالكتابة ونسخ النهي.

أولا: مرحلة النهي عن كتابة الحديث:
كانت هذه المرحلة في البداية حيث نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الأحاديث خشية الخلط بين السنة والقرآن، فإن الوحي كان في بدايته، وربما لم يميز السامع بين كلام الله وكلام رسوله.. أو ربما التبس على بعض من لا يفرق بينهما..
وعمدة هذا النهي ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه سولم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه). وهذا أصح ما ورد في هذا الباب..

وعن أبي سعيد قال: "جهدنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لنا في الكتاب فأبى"، وفي رواية عنه قال: "استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا". (انظر الإلماع: 28، وتقييد العلم: 32، والمحدث الفاصل45).

ثانيا: مرحلة إباحة الكتابة:
كانت هذه المرحلة بعد أن استقرت الدعوة، وارتفعت المحاذير المتوقعة من كتابة السنة في أول الأمر، وميز المسلمون بين القرآن وغيره فأمن الخلط، فعند ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في كتابة السنة.

وقد ذكر أهل العلم أحاديث الإباحة وجواز الكتابة، وبوب الإمام البخاري في صحيحه بابا بعنوان: "باب كتابة العلم"، وذكر أحاديث عدة تدل على جواز ذلك، فكان الصحابة يكتبون بين يديه وعلى مرأى منه ومسمع.
روى الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: "كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أَسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وقالوا: أَتكتُبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟ فأَمسَكْتُ عن الكِتابِ، فذَكَرْتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيه، فقال: اكتُبْ؛ فوالَّذي نفْسي بيدِهِ، ما يَخْرُجُ منه إلَّا حقٌّ).

وجاء صريحا أيضا عن عبد الله بن عمرو أن الصحابة كانوا يكتبون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك يحمل على ما بعد إذنه لهم بالكتابة.. فقد روى أحمد والحاكم عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينيّة أو رومية؟، فدعا عبد الله بصندوقٍ له حِلَقٌ، فأخرج منه كتاباً، فقال: "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً، أقسطنطينية أو رومية؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أولاً". يعني: قسطنطينية. (وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الألباني هو كما قالا).

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي خطب الناس بعد فتح مكة... قال: فقام أبو شاهٍ – رجلٌ من أهل اليمن- فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه).

ومما يدل على إباحة الكتابة أيضا أن بعض الصحابة كانت لهم صحائف كتبوا فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعوه أو بعضه، فكان لعبد الله بن عمرو صحيفة تسمى (الصادقة)، رواها عنه حفيده عمرو بن شعيب، وكان لسيدنا جابر بن عبد الله الانصاري صحيفة، وكذلك أنس بن مالك كانت له صحيفة كان يبرزها إذا اجتمع الناس. (انظر تقييد العلم).

التوفيق بين أحاديث النهي والإباحة:
ثبتَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم النهي عن كتابةِ الحديثِ، وكذلكْ ثبتَ أمرُه بها أيضًا، وكِلا الأَمرينِ حَقٌّ.. وقد نظر أهل العلم في أحاديث النهي عن الكتابة، وأحاديث الإباحة وجمعوا بينها ووفقوا بعدة أقوال:

أولا: ذهب غالبهم إلى أن النهي كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن، وذَهبَ هؤلاء إلى أنَّ أحاديثَ السَّماحِ بالكِتابةِ نَسخَت أحاديثَ النهيِ عَنها، وذلكَ بعدَ أن رَسخَت مَعرِفةُ الصَّحابةِ بالقُرآنِ، فلَم يُخشَ خَلطُهم له بِسواهُ مِن حَديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّم، فلما ميزوا بينهما بحيث يصعب الاختلاط سمح لهم صلوات الله وسلامه عليه بتدوين الحديث وكتابته، فأحاديث الإباحة عندهم ناسخة لأحاديث المنع.
وفي زاد المعاد قال ابن القيم بعد أن ذكر حديث أبي شاة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اكتبوا لأبي شاه) قال: "فيه دليل على كتابة العلم ونسخ النهي عن كتابة الحديث"(زاد المعاد:4 /182)

ثانيا: ذهب قوم إلى أن النهي إنما كان عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معه، فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه. ("شرح مسلم" للنووي" 18: 130، "فتح الباري" 1: 308، "اختصار علوم الحديث" لابن كثير 2: 380).

ثالثا: قال جماعة كان النهي في حق من وثق في حفظه وخيف اتكاله على الكتابة، والإذن في حق من لا يوثق بحفظه كأبي شاه.

رابعا: أن النهي كان عاما وإنما سمح النبي صلوات الله عليه وسلامه لبعض الناس كعبد الله بن عمرو وفي حالات خاصة كأبي شاه.

الترجيح
والذي عليه جمهور الأئمة أن الأقرب للصواب هو القول بالنسخ: وأن أحاديث النهي منسوخةٌ بأحاديث الإذن الثابتة الكثيرة، والتي تدل على القطع بوقوع الكتابة للأحاديث في عهده صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك ويقويه تأخر أحاديث الإذن، ووقوع بعضها في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم.(الباعث الحثيث: احمد شاكر).

وعلى كل الأحوال، وجميع التأويلات يبقى أن المؤكد عند الجميع أن السنة كانت تكتب بين يدي النبي صلوات الله وسلامه، وأن القول القاطع والفصل أن بداية التدوين بمعنى الإثبات والكتابة لم يتأخر عن حياة رسول الله، وأن السنة جمع كثير منها في السطور كما كان يحفظ في الصدور، وإنما الذي تأخر هو التدوين بمعناه الاصطلاحي وهو تأليف كتاب خاص بهيئة معينة، ككتب المسانيد، والسنن، والصحاح.. وهذا يقال فيه عصر التأليف والتصنيف لا عصر بداية الجمع والكتابة.

ومن هنا نعلم أن الذين يحاولون الطعن في السنة ويزعمون أنها لم تدون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامهم مردود، والحق أنها دونت ولكن ليس بالصورة التي تمت بها فيما بعد في عصور التدوين.

غير أن من المجمع عليه بين الكافة ولا يختلف فيه أحد أنها كانت محفوظة في الصدور، وفي بعض الصحائف والسطور، وتلقاها عن الصحابة التابعون، ثم بدأ التدوين الخاص في أسفار لا يكون فيها إلا السنة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، ثم أفردت لها مؤلفات إلى أن تم الأمر على ما هو عليه، وحفظ الله تبارك وتعالى دينه بحفظ سنة نبيه، كما حفظه بحفظ القرآن الكريم. وصدق الله تعالى إذ يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

فضل المحرم وعاشوراء

من جميل نعم الله على عباده أن تابع لهم بين مواسم الخير وأسبابِ الأجر، فما يكاد ينتهي موسم للعبادة حتى يتبعه موسم...المزيد