
التاريخ لا يرحم، وستبقى صفحاته تحمل في طياتها أسماء القادة الصادقين، والأبطال الفاتحين، وأصحاب المواقف المخلصين في نصرة أمتهم وتمحيض النصح لها، وفي المقابل سيبقى في صفحات هذا التاريخ ذكر الجبناء والمنافقين، والخونة والمجرمين، ممن يقوم بالأدوار القذرة وخيانة دينه أو أمته أو وطنه أو قومه أو جماعته.
فصفحات التاريخ ناصعةُ البياض لكل مخلص، قاتمة السواد فاضحة لكل خائن عميل، وسيبقى الناس على مدار الزمان يشكرون لهؤلاء صدقهم، ويلعنون أولئك ويسبونهم، ويضربون المثل بخيانتهم ودورهم القذر في تضييع أمتهم.
أبو رغال
ذكرت كتب التاريخ والسير أن أبرهة الأشرم حين قدم من الحبشة إلى بلاد العرب ليهدم الكعبة بيت الله لم يكن يعلم الطريق إليها، فطلب دليلا يدله في مهامه أرض العرب وفيافيها إلى طريق الكعبة، فلم يقبل ذلك أحدٌ إلا رجلٌ يقال له أبا رغال، فكان معه في جيشه يدله على الطريق، فضربت به العرب المثل في الخيانة.. وأصبح لقب أبي رغال يطلق على كل من خان قومه لمصلحته الخاصة.
وقد ذكر الطبري في تاريخه أن أبا رُغال كان رجلا من ثقيف أرسلوه مع أبرهة يدله على البيت الحرام لهدمه، فلما وصل مع أبرهة إلى موضع يسمى المُغَمّس مات أبو رغال، فصارت العرب تٌرجم قبره بذلك الموضع. وكان من شعائرهم بعد الحج المرور على قبره ورجمه بالحجارة، حتى قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه ... ... كما رجم الحجيج أبا رغال
ابن العلقمي
ومن صور الخيانة العظمى في هذه الأمة - أمة الإسلام - ما كان من ابن العلقمي الذي يضرب به المثل في الخيانة عبر التاريخ، ويفوح من اسمه رائحة الغدر والمكر، وقد سجل له التاريخ دوره القذر في إسقاط دولة الخلافة العباسية، والتآمر على اجتياح التتار لها ولعاصمتها بغداد، وتعريضها لأخطر الكوارث التي حلت بالأمة الإسلامية بل الإنسانية جمعاء.
من هو ابن العلقمي؟
هو أبو طالب محمد بن أحمد بن علي البغدادي "الرافضي الخبيث" المشهور بابن العلقمي (593-656هـ). قال ابن كثير: "المشؤوم على نفسه، وعلى أهل بغداد،... لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة، هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده، قبّحه الله وإياهم".
اشتغل في صباه بتعلم الأدب والكتابة، حتى صار كاتباً فصيح الإنشاء، بليغ العبارة، جيد السبك، وصاحب أداء أدبي مميز، واشتهر ابن العلقمي واستخدمه العباسيون، وما زال يترقى حتى شغل منصب أستاذ الدار عام (629هـ).
و"أستاذ الدار" منصب يكون صاحبه مسؤولا عن رعاية دار الخلافة وصيانتها وتوفير ما يلزم لأسرة الخلافة، ولا شك أن صاحب هذا المنصب يكتسب أهمية كبيرة، ويكون من أقرب المقربين في حاشية الخليفة.
ثم استوزر الخليفة المستعصم بالله ابن العلقمي إضافة لوظيفته السابقة فزادت منزلته وعلت مكانته، وصار مطاع الكلمة، يتصرف في إدارة البلاد، واستغل هو ذلك في تقليد أبناء مذهبه والمقربين منه المناصب العليا وقيادات الحرس والجيش، وتعمق دوره في اتخاذ القرارات المصيرية والمؤثرة في دولة الخلافة.
وقد أعانه على ذلك الضعف الشديد الذي كان عليه المستعصم بالله؛ يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "وكان المستعصم ليناً سهل الانقياد ضعيف التدبير، فيه شح، وقلة معرفة، وعدم تدبير، وحب المال، وإهمال للأمور، وكان يتكل على غيره، ويَقْدُم على ما لا يليق وعلى ما يستقبح، وكان يلعب بالحمام، ويهمل أمر الإسلام".
وقال ابن كثير في تاريخه المشهور: (استوزر الخليفة المستعصم بالله سنة 642هـ، مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشؤوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة، هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده، قبّحه الله وإياهم، وكان داهية استطاع أن يستغل صفات الضعف في الخليفة لينفث سمومه وينفذ مخططاته).
كيف أسقط الخلافة
كرّس ابن العلقمي حياته للقضاء على الخلافة العباسية، ومحاربة أهل السُّنَّة أينما حلّوا أو ارتحلوا، واستطاع ذلك الوزير الخائن أن يسقط دعائم الخلافة من خلال خطة خبيثة دارت على ثلاثة محاور:
الأول: القضاء على القوة العسكرية
وقد قامت خطته على إضعاف الجيش، وتسريح أكبر عدد ممكن من الجند، والتضييق عليهم في معايشهم ورواتبهم حتى يتركوا الجيش، ومنع عنهم مستحقاتهم، وزين للخليفة الاقتصار على عدد قليل منهم، فوافقه على ذلك.. يقول ابن كثير: "وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف مقاتل، بسياسة قطع الأرزاق، وتقليل نفقات الجهاد، حتى وصف ابن كثير حالة الجند والجيش وقت وصول التتار بقوله: "فأحاطوا (يعني التتار) ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد "أي شحذوا". وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي".
فكانت هذه هي الخطوة الأولى لكل خائن يريد إسقاط أمته، أو كل عميل يريد تضييع دولته، أن يضعف جيشها، بتقليل عدده، أو إضعاف قوته، وإسقاط هيبته، وإهمال كفاءته، وصرف الجند عن مهمتهم الأكبر، وشغلهم بأمور لا علاقة لها بالقتال ولا بالجهاد، فيسهل على أي عدو اجتياحُها، واستباحةُ أهلها.
الثاني: مكاتبة التتار والخيانة العظمى
وبعد أن هيأ ابن العلقمي البلاد، وأفسد جيشها، وأضعف قواها، وسرح الجند، ولم يعد هناك من يدافع عن الدين ولا البلاد ولا العباد، كاتب التتار، ودعاهم لاجتياح دولة الخلافة، وبين لهم حالها وما آلت إليه من ضعف.
يقولُ ابنُ كثيرٍ: "ثم كاتب التتارَ، وأطمعهم في أخذِ البلادِ، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحالِ، وكشف لهم ضعفَ الرجالِ؛ وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضية، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين"[البداية والنهاية : 13/202].
وقد جرأ بذلك الفعل التتر على مهاجمة بغداد، وقوى قلوبهم، وأطمعهم في القضاء على المسلمين.
وهكذا أهل الخيانة والعمالة في كل زمان الذي يمالؤون الكافرين، ويتجسسون لصالحهم، ويدلونهم على عورات المسلمين.. وقى الله شرهم، وقطع الله دابرهم.
الثالثة: التثبيط والتخذيل عن مقاومة التتار
ثم كان تمام دوره أنه ثبط الخليفة وخذَّل الناس عن ملاقاة التتار ومقاومتهم، وخوَّفهم بأسهم وشدتهم، وأقعدهم عن جهادهم، وهو ما أكده شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- بقوله: "فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق العسكر وإضعافهم، وينهى العسكر والعامة عن قتالهم ويثبط الخليفة ويرعبه منهم بأنواع من الكيد والمكر حتى أدخل التتار بغداد بلا قتال يُذكر".
وهذا هو دور المنافقين وأكابر المجرمين في كل زمان، تخذيل الأمة وتثبيطها عن الدفاع عن نفسها، وصيانة أعراضها، وحفظ مقدراتها، ونصرة دينها، بدعوى أن الكفار أعظم عَددا وعُددا وعتادا وأكثر نفيرا، وأنه لا طاقة لكم بقتالهم، وأين أنتم منهم، فلا تهلكوا أنفسكم بقتالهم، ولا يغرنكم ما تزعمون من نصر الله لكم، وقد سجل الله سبحانه لهم هذا الموقف في سورة الأنفال حيث يقول: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:49].
يقول الإمام ابن جرير الطبري: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} "يعني: شك في الإسلام، لم يصحَّ يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم، (غر هؤلاء دينهم)، يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، دينُهم وذلك الإسلام".
ثم قال: وأما قوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله، ويثق به، ويرض بقضائه، فإن الله حافظه وناصره؛ لأنه "عزيز"، لا يغلبه شيء، ولا يقهره أحد، فجارُه منيع، ومن يتوكل عليه مكفيٌّ.
فلم يختلف دور المنافقين في الحديث عن دورهم في القديم، وما زلنا نعرفهم في لحن القول، والله يهتك أستارهم، ويكشف على ألسنتهم أسرارهم.
الخديعة الكبرى
وأوهم ابن العلقمي الخليفة أن ملك التتار يريد الصلح على نصف خراج بغداد، وزين للخليفة أن يذهب إليه بوجهاء المسلمين وعلمائهم وقادة جيوشهم لعقد الصلح، حقنا لدماء المسلمين..
وفي الناحية الأخرى أشار هو ونصير الدين الطوسي الرافضي الآخر على هولاكو أن لا يصالحَ الخليفةَ، وقال الوزيرُ ابنُ العلقمي: متى وقع الصلحُ على المناصفةِ لا يستمرُ هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعودُ الأمرُ إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتلَ الخليفةِ.
يقول ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية": "وأوهم ابن العلقمي الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان، وقال فليجب مولانا إلى هذا الصلح، فإن فيه حقن دماء المسلمين، وكانت خديعة، وقتلوا جميعاً بلا جهد ومقاومة".
فتم بهذهِ الحيلةِ قتلُ الخليفةِ ومن معهُ من قوادِ الأمةِ وطلائعها بدونِ أي جهدٍ من التتر... ثم مالوا على البلدِ فقتلوا جميعَ من قدروا عليه من الرجالِ والنساءِ والولدان والمشايخِ والكهولِ والشبانِ، ولم ينج منهم أحدٌ سوى أهل الذمةِ من اليهودِ والنصارى، ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزيرِ ابنِ العلقمي الرافضي"[البداية والنهاية:13/201-202].
وكان من عواقب هذه الخيانة العلقمية الرافضية وقوع أعظم مقتلة للمسلمين في التاريخ حتى قيل إنه قتل من المسلمين ألفا ألف "مليونان"، بل قال بعضهم عدة ملايين، قال ابن تيمية في "منهاج السنة: 3/ 38": "وقد قتلوا من المسلمين ما يقالُ إنهُ بضعةُ عشر ألفِ ألفِ إنسانٍ أو أكثر أو أقل، ولم يُر في الإسلامِ ملحمةٌ مثلَ ملحمةِ التركِ الكفارِ المسمين بالتترِ، وقتلوا الهاشميين، وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين"[منهاج السنة : 3/38]. "وقتل الخطباءُ والأئمةُ، وحملةُ القرآنِ، وتعطلت المساجدُ والجماعاتُ والجمعاتُ مدة شهورٍ ببغداد" [البداية والنهاية:13/203].
ونتج عن خيانة هذا المشئوم أيضا، تدمير مكتبة بغداد العظيمة، وكانت أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وفيها عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، ورميت في نهر دجلة حتى تحول لون مياه النهر إلى اللون الأسود.
نهاية الخيانة
وكانت نهاية ابن العلقمي جزاء غدره وخيانته أن استخدمه التتار خادماً يعلف خيلهم ويسقيها بكل مهانة وإذلال وتبكيت من جند التتار، وصار عندهم أخس من الذباب، وندم على نفسه أشد الندم، ومات في نفس العام الذي احتلت فيه بغداد (656هـ)، مغموماً مجلوطاً مهاناً خسيساً جزاء خيانته ليكون عبرة لكل من يخون دينه وأمته.
عبرة وعظة
إن أحداث التاريخ إنما هي مرآة ينظر فيها الناس ليتأملوا ويتعلموا، ويأخذوا العبرة والعظة، فلا يقعوا فيما وقع فيه المغفلون عبر التاريخ، وهي كذلك دروس يتعلمها العقلاء، وليعلموا أن النتائج متعلقة بالأسباب، فمتى استولى على مقاليد الأمور في أي بلد الخونة والعملاء فإن العاقبة لابد وأن تكون بيع البلد، وتضييع أهله، وتسليمه لأعداء الأمة والملة والدين. فلا يمكن بحال أن تنتصر أمة يقودها أمثال ابن العلقمي وأبي رغال.