
لطالما كتبتُ مرارًا أنَّ التَّديُّن ليسَ هيئة تُرتدى، ولا عنوانًا يُلقَّب به المرء بينَ أقرانه، وإنما هو وهجٌ داخليٌّ، يضيء القلب كلما أظلمَ الزَّمان، ويمنح صاحبه يقظةً دائمةً على دربِ المعنى، وحينَ يغيب السُّؤال الكبير من القلب: "لماذا أنا مسلم؟ وماذا يريد الله مني؟"، تبدأ رحلة التِّيه الصَّامت، حيث تتآكل المعاني من الدَّاخل، وتنقلب العبادات إلى واجباتٍ ميكانيكية، تؤدَّى كما تؤدَّى المهام اليوميَّة، بلا توقُّد ولا شوق، ويصبح الذِّكر لقلقةَ لسان، والصَّلاة حركة، والحجاب عادة، والدعاء روتينًا، والمصحف رفيقًا موسميًّا يُرفع في المناسبات.
ولعلَّ أبرز ما نواجهه اليوم صورٌ متباينة لعللِ التَّديُّن: تديُّنٌ وراثيٌّ بارد، غابت عنه حرارة القلب؛ وتديُّنٌ مُتشدِّدٌ يُنكر على النَّاس سَعَةَ الشَّريعة؛ وتديُّنٌ استعراضيٌّ يصطنع الهيبة في العلن ويهجر حضور القلب في الخفاء؛ وتديُّنٌ جارحٌ لا يرحم السَّاقط ولا يفتح باب الرجوع، وتديُّنٌ بلا وعي، يُكرِّر المألوف ويُهدِرُ المعنى. هذه الأنماط، على تباينها، يجمعها غياب المعنى الحي، وضمور السؤال الكبير الذي يبدأ به كل إيمانٍ صادق.
إلف التَّدين
ثمَّة مَن شبَّ في بيئةٍ متدينة، فصار "الملتزم" بين أقرانه، حتى استقرت في داخله هذه الهُويَّة، وصار التَّدين عنده مقامًا محفوظًا، لا مقامًا متجدِّدًا، ومع مرور الأيام، تذبل المشاعر، وتخفت الحرارة، فيغدو تدينه عادةً محفوظة بلا روح، لا خشوع، لا شوق، لا رجاء، لا خجل من تقصير، بل يعتاد الفتور، ويرى نفسه في مأمنٍ لأنَّ النَّاس يرونه كذلك، يُغضب، ويحسد، ويغتاب، ثم لا يراجع نفسه؛ لأنه ارتدى ثوبًا واسعًا يستر هشاشته.
وكثيرٌ من هذا الفتور يبدأ مبكرًا، في الطفولة، حين يُلقَّن الصَّغيرُ التَّدين بطريقةٍ خاطئة، قائمة من الأوامر والنَّواهي، يخافُ لا يخشع، يطيع ليُمدح، ويصلي لأنه مُراقَب، فإذا شَبَّ، ظنَّ الدِّينَ قيدًا لا حياة، وعبئًا لا نورًا، وما لم تُبنَ علاقة الطفل بالله على الحبِّ والتَّعظيم والأُنْس، غلب عليه التَّدين الشكلي، وإن لبسَ أثواب الصالحين.
هذا الانفصال بين الجوهر والمظهر لا يُولد فجأة، وإنما يبدأ حين يصلي الإنسان صلاةً بغير قلب، ثمَّ لا يستدرك، يمرُّ الذِّكر بلا أثر، ثم يعتاده، تذبل الروح، ويبرد الإيمان، ويتحوَّل النور إلى رماد، وقد قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، يقول العلامة البقاعي: "وكان من أضاع الصَّلاة كان لما سواها أضيع"، فالعبرة إذن ليست بالكم ولا الظَّاهر، وإنما بالحضور.
ومن أعجب ما يُرى: أن يتسامح الإنسان مع ذنبه، ثمَّ يبرِّره، ثمَّ يدافعُ عنه، حتى لا يعود يراهُ ذنبًا، حتى يُستَبدَلَ مقام الحياءِ بمقامِ الرِّضا، ويطمئن إلى تقصيره، لأنه تعايش معه حتى ألِفَه، وأخطر شيء أن يتطبَّعَ المرء بالذَّنب حتى يتحول إلى أمرٍ اعتيادي، بفعل التَّأويل، وطلب المعاذير النَّفسية التي لا تنتهي.
وقد نبَّه الفقيه المغربي أحمد الريسوني إلى هذا الخلل الجوهري، وسمَّاه: «التَّدين المغشوش»، وهو الاعتناء بالظَّاهر مع إهمال الباطن، فتُحسن هيئة الصَّلاة وتُنسى يقظة القلب، ويُجَمَّل اللسان في العلن بينما يسترسل صاحبه في الغيبة في مجالسه الخاصة، وكأنَّ الدِّين صار مرآةً للناس لا مرآةً للنفس، وهذا النوع من التَّدين، كما قال الأستاذ الرَّاحل محمَّد الغزالي، يفسد البداهة ويمسخُ الفطرة.
فيا ابن الطريق، لا تغرَّنَّك مآذن الطاعة إذا خلا القلب من الأنين، ولا يفتنْك ثوب التدين إن لم يكن تحته قلبٌ يتوهَّجُ خضوعًا، وما لم يبعث فيكَ التديُّنُ الحقُّ: خشيةً، وصدقًا، وعدلًا، وعفة لسان، وأمانة، وهمةً تنهضُ بالأمَّة، وهمومها، فهو مَظهرٌ خادع، وسراجٌ معلَّق… انطفأ منذ زمن، وترك وراءه ظلًّا لا يُهتدى به.
التديُّن المتشدد والتحوُّل المعاكس
ويحدث، أيضًا، أن يسلك الإنسان طريقًا متشدِّدًا في فَهْمِ الدِّين، فيقاتل على مسائل فرعية، ويهجر كل مخالف، ويحاصر نفسه في قوقعة ضيقة، يُكفِّر فيها الآخرين، ويُحوّل الدِّين إلى معركة خاسرة، ثم تمنحه الأيام نافذة خروج، لا إلى الاعتدال، وإنما إلى النقيضِ تمامًا. يخلع الثوب دفعةً واحدة، وينتقم من لحظاتِ الحرمان السَّابقة بتحلّلٍ مفرط؛ لأنَّ شخصيته لم تُربَّ على التَّوازن، وإنما على الحدِّية الصارمة، على الأبيض والأسود.
والحال أنَّ القرآن العظيم أقام بناءه النَّفسي على التوازن، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، فلا هذا الانغلاق، ولا ذاك الانفلات، وإنما تربية مستمرة على سؤالِ الوجود، ومقتضى الرِّسالة.
التخلي المر
رأيتُ شابًّا عرفته نقيَّ القلب، طيِّبَ السَّريرة، سريعَ الدَّمع، شديد الحياء، كان يتقلَّبُ بين الغفوة والإفاقة، يزلُّ فيقوِّمُ نفسه، ويعود، لكن في ليلةٍ من الليالي، جلسَ بين جمعٍ من إخوانه، فبدأت النَّظرات تأكله، والعبارات تنهشه، ثم تصدَّر الحديثَ أحدُهم فاستعرض عثراته في ملأٍ من النَّاس، وهو يتصبَّبُ عَرَقًا ويتدثَّر بالصغار، كل ما استطعت فعله يومها أن وضعتُ يدي فوق يديه، أواسيه بصمتِ الحزين، لم يعد بعدها، غاب عنَّا كما يغيب من طُعن في الظَّهر وهو يستند إلى من حسبهم أهله.
التقيته بعد سنوات، غارقًا في عالمٍ من التَّحلُّل والانكسار، نظَرَ إليَّ والدَّمع يخنقه، وقال: "لقد نزعوا من قلبي كل جميل كنتُ أحتفظ به، لم أعد أملك دافعًا للرجوع، وكأنهم قتلوا الذي كنتُه".
ذاك هو التَّخلي المر، التخلي عن إنسانٍ، وتركه عرضة للضَّياع، لحظة يُسلِمه فيها أقرب الناس إلى هُوَّةِ اليأس، بدل أن يمدوا له يدًا، وكأنهم أعانوا الشيطان عليه، لا عليه وحده، بل على نفوسهم كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفٍ نبويٍّ عظيم: «لا تعينوا الشيطان على أخيكم»، ومن أنصع مشاهد النُّبوة: حين جاءه شابٌّ يستأذنه في الزنا، لم يصرخ فيه، ولم يزجره، بل قرَّبه، وناجاه، وخاطب قلبه، حتى خرج الشاب وهو يقول: "ما كان شيء أبغض إليَّ منه". تلك هي النبوة حين تمسك القلب، لا حين تصفع الخطأ، وحين تفتح للضعيف بابًا إلى الله، لا إلى النَّدم القاتل.
غياب العقل
وليس كل من ضعفَ في دينه خانَه قلبه، بل أحيانًا خانه فَهمه، العقل إذا تُرِكَ بينَ تسليع الدِّين، وغلوّ الدُّعاة، واضطراب القدوات، أصابه العَطَب، ثم يُحمِّل الدِّين تبعات لا صلةَ له بها.
فالفكر هو الحارس الأول للإيمان، وما تديُّنٌ يذبل إلا عقلٌ لم يُسقَ بالمعنى، لا يكفي أن تُعلَّم الشَّعائر، وإنما لا بد أن تُربَّى الفكرة: لماذا نعبد؟ ولمن نطيع؟ وما الغاية من هذه الرِّحلة؟ من لا يحمل رؤية قرآنية عن الكون والنَّفس والمصير، يضيع في أولِ عاصفة، ويظنُّ أنَّ الدِّين هو ما رآه في سلوك المتدينين، لا ما أنزله الله على نبيه.
ومن لم يُغذَّ عقله بسكينةِ الوحي، وتربية النُّبوة، استسلم لضجيج العالم، ووقع في فخِّ التحوُّل لا عن قناعةٍ، وإنما عن اختناق.
التديُّن المرئي في زمن الِمنصَّات
وفي هذا العصر، تَحوَّل كثيرٌ من التَّدين إلى عرضٍ مرئي، يُصاغ على مقاس المتابعين، وتُنتج له اللقطات والمقاطع، حتى صار الإيمان مشهدًا لا سكنًا، واستعراضًا فجًّا، تُحسب القلوب بعدد الإعجابات، وتُقاس المراتب بما يُنشر لا بما يُكتم، فيختلط المظهر بالجوهر، وتضيع الخلوات، ويغيب البناء الباطني الذي لا تصوِّرهُ الكاميرات.
خاتمة:
حين تُنسى هذه الأسئلة، يضيع الإنسان، ولو بدا متدينًا، ويضيع المجتمع، ولو ازدحمت مساجده؛ لأنَّ الإيمان في جوهره ليس شعارًا، وإنما يقظة قلب، وحركة نحو الله لا تهدأ. التدين كما هو انضباط خارجي، هو أيضًا معركة داخلية: فيها الصَّبر، والخوف، والانكسار، والتَّوبة، والمراجعة، والقوة، واحترام جهود الأمَّة، والذَّب عنها، وكفِّ اللسان عنها، هو عرقٌ على الجبين في مواجهةِ النَّفس، لا وجهٌ مزين أمام الآخرين، وأسوأ ما يصيب التدين: أن يتحول إلى قشرةٍ اجتماعية، تفرغُ الدِّينَ من أثره، تخنقُ صاحبها، وتمنعه من الاعتراف، أو المراجعة، أو التراجع، لأنَّ صورته باتت أغلى من حقيقته.
التَّدين الذي لا يحتمل الضَّعف، ولا يرحمُ السَّاقط، ولا يُنصِت للمجتهد، ولا يعذر المخالف، ولا يشيع معاني الحب، والألفة، وحسن الظَّن، ويقفُ في وجهِ تطلعات الأمَّة الكبرى، وحقها في التَّحرر، والكرامة؛ ليسَ من النُّور في شيء، فما عرفَ معنى التَّدين الحق، وإن ادعى الدَّعاوى، وإنما هو ضربٌ جليٌّ من ضروبِ التَّدين المغشوش، وأحد أعراضه المعلولة، والتَّدين الذي لا يفتح قلبًا، وإنما يسهمُ في إغلاقه، ولا يمسح دمعًا، ليسَ مما جاءَ به محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وملاك القول: التديُّن حياةٌ تُراجع، لا قشرة تُلمَّع، ونفسٌ تُزكَّى، لا صورة تُجمَّل، هو غرسٌ دائم، إن قلَّ ماؤه ذبل، وإن سُقي بما ليس منه فسد، وإنما العبدُ عبدٌ، ما دام يعاتب نفسه إذا جفَّ وجهُ الإيمان فيها، ويعود، لا لأنه لم يبتعد، ولكن لأنه عرفَ المدى فلم يطق مفارقته.