
تربية الأبناء من أشد ما يقاسيه الإنسان ويعانيه في واقعنا المعاصر.. ذلك أن العملية التربوية عملية معقدة جدا، ومهمة أيضا جدا.. إذ هي بناء للعقول، وتزكية للنفوس، وتهذيب للأخلاق، وإثراء للعلوم والفهوم، جنبا إلى جنب مع بناء الأبدان والأجسام، فهي عملية بناء متكامل بناء عقدي، وبناء علمي، وبناء خلقي، وبناء نفسي، وبناء جسدي.
والتربية في زمننا علم وفن، وإذا لم نحاول أن نتعلم فنون التربية فربما ندمر أبناءنا من غير قصد من خلال ممارسات نمارسها دون انتباه لخطرها وأثرها على الأولاد ـ ولو كان على المدى البعيد ـ فتتراكم في عقولهم ومخيلتهم، وتترك ندبا في نفوسهم، ثم في نهاية الأمر نفاجأ بأن أبناءنا صاروا مشوهين نفسيا وتربويا وأخلاقيا، ومع مرور الوقت تبدأ هذه المشاكل في الظهور، وتحتاج إلى سرعة التدخل في العلاج وإلا ازداد الأمر سوءا، وكانت العاقبة غير محمودة.
والحقيقة أن هذه العاهات التربوية والتشوهات النفسية ـ وربما الاختلالات الأخلاقية ـ وراءها أسباب وتصرفات كان مبتداها من البيت وسببها من الوالدين أنفسهما.
كيف تدمر أبناءك!!!
هناك ممارسات بالفعل تؤدي إلى تدمير الأولاد نفسيا، وانحرافهم أخلاقيا، وتؤدي إلى خلل وعلل في العملية التربوية.. فمن هذه الممارسات:
ـ كثرة الصراخ ورفع الصوت:
يؤدّي الصراخ الدائم على الأطفال إلى نظرة الطفل السلبية لذاته، وفقدان الثقة بنفسه، وعدم احترام الذات، ويُشعِر الأطفال بأنّ الوالدين ليسا بجانبهم، كما يولّد الصراخ تحديًّا بين الطفل ووالديه، يؤدّي في نهاية المطاف إلى انفصال الطفل عاطفيًّا عن والديه، وبعده الدائم عن محيط وجودهما، مما يساهم في تكسير الروابط العائليّة، والركون إلى الوحدة والعزلة، وربما تطور إلى مشاكل أخرى ككثرة القلق والتوتّر، والاكتئاب.
ـ الضرب والعنف الجسدي:
وهو من أسوأ أساليب التربية وأكثرها انتشارا للأسف، وهو معاقبة الطفل بدنيا بالضرب كلما خالف أو أخطأ، وعواقب هذا الأسلوب سلبية للغالية، فهي إما أن تخلق طفلا كارها لكل من حوله، وعدوانيا كثير الرغبة في الانتقام.. أو طفلا شديد الانطوائية والانعزال عن الآخرين، قليل الثقة جدا بنفسه شديد الخوف من أي محاولة للعمل خوف الفشل، وربما يصبح شخصا شديد القسوة والصرامة شديد العنف مع أبنائه عند كبره، وفي تعاملاته مع الآخرين.
ـ السيطرة والتسلط:
بإلزام الطفل بالنشاطات والمهام التي حددها الآباء فقط، ومنعه عن القيام بالنشاط الذي يرغب فيه دون مبرر، وفي الغالب يرتبط هذا السلوك التربوي بالعقاب النفسي أو البدني، وربما زاد التسلط فيمنع من نوع الدراسة الذي يرغبه ويرغم على ما كان يتمناه الأب أو كان يتمناه وفشل فيه فيريد أن يعوض فشله في أبنائه.
والأطفال الذين تعرضوا لهذا الأسلوب التربوي يغلب عليهم الخوف والخجل، والتبعية والخضوع للآخرين، ويكونون غير قادرين على التفكير والإبداع، ولا حتى إبداء الرأي في المواضيع العامة والمناقشات مع الأصحاب، والنتاج إنسان بلا هوية ولا شخصية.
ـ الشجار الدائم وعدم الاحترام المتبادل بين الزوجين:
مع تبادل الصراخ والشتائم ربما، وأحيانا يتطور إلى نوع من الضرب، وهذا له أثر مدمر على الطفل: فهو يؤدي إلى مشاكل نفسية كالقلق والخوف والاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس وربما مشاعر الكره نحو أحد والديه إذا رأى أنه مظلوم وهو يكن له محبة كبيرة.
ومن الناحية الصحية: يعيش في قلق دائم مما يؤثر على دماغ الطفل ويسهم في تأخر نمو قدراته العقلية، وأحيانا حالات من التبول اللاإرادي نتيجة الخوف أو الهواجس التي تنتج عن وجوده بهذه الأجواء المشحونة.
وكذلك يرسخ في عقلية الأطفال أفكارا مغلوطة عن مفهوم الزواج والحياة الأسرية، وهذا سيؤثر على حياتهم العاطفية والاجتماعية في الحال والمستقبل. وهذه المشاكل تؤثر سلبا أيضا على المستوى الدراسي للأطفال، وتؤدي إلى تأخرهم العلمي وتدني مستوى التحصيل، وقد وجد أن أكثر الذين تفلتوا من كراسي الدراسة كانوا يعيشون في أسر غير مستقرة، أو انفصل فيها الأبوان.
ـ النقد الدائم:
وممارسة الألم النفسي بدوام البحث عن الأخطاء، والتركيز على السلبيات دون الإيجابيات، والتقليل من شأنه ومن أفكاره واهتماماته.. وهذا يفقده ثقته بنفسه، وعدم القدرة على القيام بأي تصرف خوفا من توجيه النقد له، وينتج لنا إنسانا مترددا، خائفا، انطوائيا في الغالب قليل التفاعل مع الآخرين.
ـ المقارنة الدائمة بينه وبين الأطفال الآخرين:
حيث يظن البعض أن هذا من باب التحفيز لبذل الجهد ومحاولة التفوق، ولكنه في الغالب ما يكون محبطا، ويؤدي إلى زعزعة ثقة الطفل بنفسه، لعدم مراعاة القدرات الفردية والملكات والخصائص بين الأطفال بعضهم وبعض.. وربما يؤدي أيضا إلى الحسد والكراهية لهؤلاء الأطفال الذين يقارنونه بهم، وربما العدائية والعدوانية تجاههم.
ـ العناية الزائدة والدلال المفرط:
وتلبية جميع الطلبات والرغبات، والقيام عنه بجميع المهام والواجبات.. وعدم المحاسبة على التقصير والأخطاء.
وعواقب هذه التربية إنسان غير مسؤول، ضعيف الشخصية أناني اتكالي إلى الغاية، غير قادر على اقتحام المواقف وتحمل المسؤولية.
ختاما
إن التربية تحتاج إلى الوعي والاهتمام، والملاحظة الدائمة للأخطاء التربوية وما يصاحبها من آثار على الأطفال، ومعالجة ذلك أولا بأول، وتصحيح المسار التربوي؛ ليخرج أبناؤنا على ما نرغب وما نحب وما ينبغي أن يكونوا عليه، نافعين لأنفسهم ولدينهم وأوطانهم، والاستعانة أولا وآخرا بالله تعالى والدعاء بالتوفيق.