الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، وحثهم على المسارعة إلى مغفرته وجناته، نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصيته للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النساء:131).
معاشر المؤمنين: شهر ذي الحجة شهرٌ عظيم، وموسمٌ كريم، وأحد الأشهر الحرم التي عظّمها الله في كتابه، فقال سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (التوبة:36). شهرٌ تُقام فيه شعيرةُ الحج العظيمة، وتُشرَّف فيه الأيام العشر التي هي من أفضل أيام الدنيا على الإطلاق.
عباد الله: من الواجب علينا أن نعرف قدر هذه الأيام الفاضلة التي أقسم الله تعالى بلياليها فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} (الفجر:1-2)، والقَسَم الإلهي دليلٌ على عِظم المقسَم به، وما أقسم الله به إلا لعظيم شأنه ورفيع قدره.
وقد فسَّر جمهور المفسرين الليالي العشر بأنها عشر ذي الحجة؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار الواضحة.
روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيامٍ أعظم عند الله، ولا أحبُّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من ذكر الله في هذه الأيام؛ إذ إن الذكر فيها له شأنٌ عظيم، وثوابٌ كبير.
أيها المؤمنون: هذه الأيام العشر هي ميدان للتنافس في الطاعات، وسوقٌ رابحة لمن أراد الفوز بالقرب من رب الأرض والسماوات، فالمحروم من ضيعها، والمغبون من غفل عنها، وهي أيام قليلة معدودة، لكنها عظيمة البركة، تضاعف فيها الحسنات، وترفع فيها الدرجات، وتغفر فيها الزلات.
كان سلفنا الصالح رحمهم الله يدركون مكانة هذه الأيام، فكانوا يجدّون فيها اجتهاداً كبيراً، وقد قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لاجتماع أمهات العبادات فيها، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها".
معاشر المؤمنين: إن من أعظم القربات في هذه الأيام: الإكثار من الذكر والتكبير، وإحياء سنة التكبير المطلق، وهي السنة التي كادت تندثر في كثير من الأمصار، روى البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما.
عباد الله! أحيوا هذه السنة المباركة، وارفعوا أصواتكم بالتكبير في الأسواق والمجالس والمساجد والمنازل، وفي الطرقات والمنتديات، لتظهر شعائر الله تعالى، ويُذكَّر الغافلون، وتحيى السنن الميتة.
ولقد كان الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم يكثرون من قول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، حتى تهتزّ بها أرجاء البلاد، فتكون تذكيراً بفضل الله ونداءً للتقوى والطاعة.
معاشر المسلمين: ومن الأعمال الجليلة في هذه الأيام: الصيام، فقد رويَ عن بعض أمهات المؤمنين "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة" رواه أبو داود . وهو من العمل الصالح المرغب فيه في هذه الأيام.
وفي الصيام تزكية للنفوس، وتربية للضمير، ومضاعفة للأجر، قال تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) متفق عليه. فمن استطاع أن يصوم هذه الأيام فليفعل، فهي فرصة لا تعوض، وتجارة رابحة بإذن الله.
ومن الأعمال الصالحة كذلك: تلاوة القرآن الكريم؛ فإنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو حياة القلوب، ونور الصدور، فليجعل كل واحدٍ منا لنفسه ورداً من كتاب الله في هذه الأيام، يقرؤه بتدبر، ويعمل به بتأمل.
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر: كثرة الصدقات، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإدخال السرور على القلوب المحتاجة؛ فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتضاعف الأجر، وتزكي النفس والمال، وقد قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} (البقرة:245).
عباد الله: وفي هذه الأيام العظيمة يكون الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو من أجلِّ العبادات، يجتمع فيه المسلمون على صعيدٍ واحد، يلبون نداء الله، ويقفون في عرفات يرجون رحمته، ويطوفون ببيته العتيق، يرفعون أكفَّهم بالدعاء والتضرع. فما أعظم هذه الأيام، وما أجلَّ شأنها!
وقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيامٍ العمل الصالح أحب إلى الله فيها من هذه الأيام -أي: أيام العشر- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء) رواه أصحاب السنن إلا النسائي.
فانظروا إلى هذا الفضل العظيم، الذي جعل العمل في هذه الأيام أحب إلى الله من الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام.
أيها المسلمون: إذا دخلت هذه الأيام المباركة، فمن أراد أن يضحي فليجتنب أخذ شيءٍ من شعره أو أظفاره حتى يذبح أضحيته، كما ثبت في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي) وهذا من تعظيم شعائر الله، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32).
فاغتنموا هذه الأيام بالأعمال الصالحة: من صيامٍ، وقيامٍ، وذكرٍ، وبرٍّ، وصلة رحم، واستغفار، وصدقة، ودعاء.
واجعلوا بيوتكم عامرة بذكر الله، وألسنتكم رطبة بالتكبير والتهليل، وقلوبكم معلقة بالآخرة.
واحذروا من الغفلة، فإن الأيام تمضي سريعاً، والعمر قصير، والموت لا يستأذن أحداً.
أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
أيها المؤمنون: إن من أعظم ما يعين المسلم على اغتنام هذه الأيام: استحضار نية التقرب إلى الله في كل عمل، فربَّ عملٍ صغيرٍ تُعَظِّمُهُ النية، وربَّ عملٍ كبيرٍ تحبطه الغفلة.
فليجعل كل واحدٍ منا هدفه في هذه الأيام إصلاح قلبه، وتجديد صلته بربه، وليجعلها محطة للتوبة والمراجعة، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31) فمن كان مقصِّراً فليستدرِك، ومن كان غافلاً فلينتبه، ومن كان عاصياً فليتب إلى مولاه.
واعلموا أن الله يفرح بتوبة عبده، ويفتح له أبواب رحمته، فلا تيأسوا من عفوه، ولا تقنطوا من رحمته، فرحمته وسعت كل شيء.
عباد الله: لنجعل هذه الأيام بداية جديدة مع الله، نغسل فيها قلوبنا من الذنوب، ونملأها بالذكر والمحبة والإخلاص، ونربي أبناءنا وأهلنا على اغتنام هذه المواسم، وتعظيم الشعائر، فالأجيال إنما تُنشَّأ على ما نغرسه فيها من حب الطاعة وشعور التعظيم لله تعالى.
ولا ننسى في هذه الأيام الدعاء لإخواننا المسلمين في كل مكان، ممن يعانون الشدائد والمحن، فدعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب، وفيه من الأجر ما الله به عليم.
عباد الله: اتقوا الله في هذه الأيام المباركة، واجتهدوا في طاعته، وكونوا من السابقين بالخيرات، وأخلصوا أعمالكم لله وحده، فإنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً.
وصلُّوا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
المقالات

