الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي مُحمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد: أيها المسلمون:
إن من أعظم نعم الله على عبده أن يسخّر جوارحه في طاعة الله، وشكر النعمة يكون باستخدامها فيما يرضي الله، فالعين لا تنظر إلا إلى الحلال، والأذن لا تُصغي إلا إلى الخير، واللسان لا ينطق إلا بالحق، كما كان حال السلف الصالح، ومنهم عروة بن الزبير رحمه الله حين قُطعت رجله فقال وهو يحمد الله: "أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد، إنه ليعلم أني ما مشيتُ بك إلى حرامٍ قط".
جوارح الإنسان جوارح، وأخطرها شأناً اللسان، تُسَلُّ السيوف وتُدَقُّ الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتنٌ بكلمات، وتُقذف مؤمنات بكلمات، تُهْدَم حصونٌ للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات..
بكلماتٍ يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، الغيبة والنميمة، والسبُّ والافتراء، والهمز والفحش والبذاءة كلها كبائر تكون بكلمات.. وفي المقابل بكلمات أيضاً تستيقظ الضمائر، وتحيا المشاعر، ويفرح المحزون، وتعلو الهمم، وقد قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق:18)، وقال سبحانه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(الإسراء:36).. وقال صلى الله عليه وسلم: (أمسِكْ عليْكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِكَ) رواه الترمذي.
عباد الله: خطر اللسان لا يقف عند حدود الدنيا، بل تمتد آثاره إلى الآخرة وعاقبة الأعمال..
فكم من كلمات وحروف جرّت إلى الهلاك والحتوف! كم من كلمةٍ أخرجت قائلها من رحمة الله وهو لا يشعر!
وإذا كان التحفظ من الحرام في المأكل والمشرب يسير وسهل على كثير من الناس، فإن حفظ اللسان من أعسر الأمور، قد ترى الرجل في ظاهره الخير، لكنه يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً، فيهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب. قال ابن القيم رحمه الله: "كم رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول"..
وإن أردت أن تعرف أثر وخطورة الكلمة، فانظر وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلين من بني إسرائيل، أحدهما عابد والآخر مذنب، فقال العابد لصاحبه: (واللهِ لَا يغفِرُ اللهُ لكَ أبدًا، ولَا يُدْخِلُكَ الجنَّةَ، فقال الله عز وجل: مَن ذا الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) رواه مسلم. قال أبو هريرة رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث: "والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه"..
يَسْتَحْسِنُ البَعْضُ أَلْفاظًا إِذَا امْتُحِنَتْ يَوْمًا فَأَحْسَنَ مِنْهَا العُجْمُ وَالخَرْسُ
وإذا كان اللسان قد يُهلك صاحبه بكلمةٍ لا يُلقي لها بالاً، فإن البلاء أعظم حين تتحول الكلمات إلى كلمات مسمومةٍ تُوجَّه إلى دين الله وإلى الذين حملوا هذا الدين إلينا.
فنوجّه هذه النصيحة إلى من أطلقوا ألسنتهم في عِرْض أحدٍ مِن خيار الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) رواه البخاري.
ونوجه هذه النصيحة إلى مَن يكتبون ـ أو ينقلون ذلك، يزينون الرذيلة، ويدعون إليها باسم الحرية والتقدّم، فهؤلاء أحقّ الناس أن يُقال لهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) رواه الترمذي.
وكلنا محتاج إلى هذه النصيحة والتذكير بهذا الأمر العظيم، فلسنا عن آفات اللسان وخطورته ببعيد، فزلات اللسان وآفاته لا تُحصى، ويقع فيها الصغير والكبير إلا من رحم الله..
ومن أخطر هذه الآفات والزلات: الخوض في الأعراض، وتتبع العورات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مَعشَرَ مَن آمَنَ بِلسانِه، ولم يدْخلِ الإيمانُ قلبَه! لا تغتابُوا المسلِمينَ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْراتِهم، فإنَّه مَنِ اتَّبعَ عَوْراتِهم، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرتَه، يَفْضحْه في بيتِه) رواه أبو داود. فيا له من وعيدٍ شديدٍ يعلّمنا أن جرح اللسان أشد من جرح السنان.
أرى جُرْحَ السنانِ له التئام وما لِجُرْحِ اللسان التئام
وقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: (إنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا) رواه البخاري. ونظر عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى الكعبة وقال: "ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! وللمؤمن والله أعظم حرمة منك"..
فاحفظوا ألسنتكم، ولا تتكلموا إلا بخير، فإن المسلم الحقّ من سَلِم المسلمون من لسانه ويده كما قال صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (كفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ: ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم) رواه الترمذي. وقال ابن القيم: "إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها"..
عباد الله: ومما ينبغي الحذر منه والبُعد عنه الغيبة.. فالغيبة داء عضال، ومقت ووبال، تضيع الحسنات، وتجلب السيئات، والغيبة هي ذِكْرك لأخيك بما يكرهه، في بدنه، أو دينه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ولده، أو زوجه، أو ثوبه، أو حركته، بلفظٍ أو همز أو إشارة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ. قيلَ: أفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أخِي ما أقُولُ؟ قالَ: إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه فقَدْ بَهَتَّهُ) رواه مسلم.
فإن لم يكن في أخيك ما قلتَه، فكلامك عنه بهتانٌ وظلمٌ وكذب، وقد قال صلى الله عليه: (من رمى مسلمًا بشيءٍ يريدُ شينَه به حبسَه اللهُ على جسرِ جهنمَ حتى يخرجَ مما قال) رواه أبو داود، أي حتى يثبت ما قال، وكيف يستطيع الإنسان أن يثبت عند الله باطلا، أو كيف يستطيع أن يتنصل من تبعة ما قال يوم القيامة..
كلمة سيئة تقولها على أخيك سواء كانت فيه أم لا، إنْ كانت فيه فقد اغتبتَه، وإن لم تكن فيه فقد بَهتَّه وافتريتَ عليه، فاحذروا ثم احذروا، وكم من كلمات وحروف تورد صاحبها المهالك.
ومما ينبغي الحذر منه أيضا من آفات اللسان، والتي ربما يجهلها البعض ولا يلقي لها بالا، المزاح والضحك والسخرية بأمر من أمور الدين أو بالمتدينين، أو بسُنة نبوية يُتَمَسَّك بها، وذلك بإطلاق النكت والتعليقات لإضحاك الناس، فالحذر الحذر من المزاح والسخرية بأمور الدين أو بأهل الطاعة والسنة، فكم من نكتةٍ أو تعليقٍ أُطلق لإضحاك الناس وتسليتهم كانت وبالاً على صاحبها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ) رواه البخاري.
نعم، المزاح مباح ـ ولكن بشرط ألا يكون فيه كذب ولا أذى ولا سخرية لا بالدين ولا بأحد من عباد الله، وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسولَ اللهِ، إنك تُداعِبُنا قال: إني لا أقولُ إلا حقًّا) رواه الترمذي.
فليكن مزاحنا صدقاً، وكلامنا ذكراً، حفظاً لألسنتنا من الزلل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
أما بعد:
فإن أعراض المسلمين حفرةٌ من حفر النار يقع فيها كثيرٌ من الناس، فالحذر كل الحذر من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لَمَّا عُرِجَ بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ مِن نُحاسٍ يخْمِشون وجوهَهم وصدورَهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء الَّذين يأكُلون لحومَ النَّاسِ، ويقَعون في أعراضِهم) رواه أبو داود.
وإذا كان اللسان سبباً للهلاك وخطورته شديدة، فإن من عظيم أخطاره أن يُضيع العبدُ حسناته التي جمعها بإطلاقه لسانه وفريه في أعراض الناس، مسكين ذلك الذي يجتهد في الصلاة، ويصوم، ويتصدق، ثم يأتي يوم القيامة ولا حسنة له، أين ذهبت صلاته؟ أين ذهب صيامه؟ أين ذهبت صدقاته؟ أين ذهب بره وإحسانه؟ فرَّقها بلا حساب، ذلكم هو المفلس حقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ) رواه مسلم.
وختاماً: اعلموا ـ عباد الله ـ: أن حفظ اللسان صفة الصالحين، الذين طهّروا ألسنتهم ومجالسهم من الكلام الباطل، قال بعض السلف: "صحبتُ فلاناً عشرين سنة، والله ما سمعتُ منه كلمة تعاب"، وقال آخر: "والله ما اغتبتُ مسلماً مذ علمت أن الله حرم الغيبة". ويقول الإمام البخاري صاحب الصحيح: "إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحداً"
فليكن لنا فيهم أسوة حسنة، ولنحفظ ألسنتنا، بجعلها أداة لشكر الله وكثرة ذِكره، والكلمات الطيبة، فالكلمة الطيبة صدقة.. الكلمة الطيبة، وتذكروا أن كل كلمة نقولها تُسجّل لنا أو علينا، فرب كلمة طيبة أدخلت صاحبها الجنة، ورب كلمة سيئة أدخلت صاحبها النار..
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد..
المقالات
الأكثر مشاهدة اليوم

