الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإنصاف .. خلق الداعية الموفق

الإنصاف .. خلق الداعية الموفق

تعد شخصية شيخ الإسلام " ابن تيمية " ـ رحمه الله تعالى ـ إحدى الشخصيات التي تلقى القبول لدى فصائل الحركة الإسلامية على اختلاف مشاربها ، وتعدد اتجاهاتها ، وتلون مدارسها ، وتنائي ديارها ، وتباعد بلدانها ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب .

كما تعد آراء شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قولاً فصلاً عند جل فصائل الحركة الإسلامية ، وليس ذلك أن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كان يتأتى بهذه الأقوال من عند نفسه ، ولكنه كان حريصـًا كل الحرص على الاتباع لا الابتداع ، والاقتداء لا ركوب الأهواء ، وكان ما يميزه ـ رحمه الله ـ أنه عالمـي موسوعي ، ذو سعة في علمه ، وقوة في حجته ، لا يجاريه أحد في حفظه للسنة ، ولا يطاوله إنسان في إظهار الحجة ، يعمل النقل والعقل .

وليت شعري ، لو تأسى أبناء كل فصيل من فصائل الحركة الإسلامية بشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في إنصافه لخصومه ، وعفوه عن مسيئيه ، لقد بات التنابز بالألقاب ، وتتبع العثرات ، والتفتيش عن الزلات ، والبحث عن الهفوات ديدن كثير من فصائل الحركة الإسلامية ، هذا يشتري كتاب ذاك العالم ليرى ما به من زلل ، وآخر يبحث عن شريط للعالم الفلاني ؛ لينقب له فيه عن خطل ، وبدلاً من أن يكون شعار كل عامل في الحركة الإسلامية هو ستر السيئات وإظهار الحسنات ، أصبح شعار القوم هو تتبع الهفوات والبحث عن الزلات ، وأصبح حال البعض كما قال الشاعر :
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً
بنا وما سمعوا من صالحٍ دفنوا
جهلاً علينا وجبناًعن عدوهمــو
لبئست الخلتان الجهل والجبـن

والأنكى من ذلك والأمرَّّ أن أقدام الشيوخ والأعلام باتت تنزلق في هذا المنعطف الرهيب ، بسبب ما ينقل إليهم من أتباعهم ، وما يحكيه لهم تلامذتهم ، وحجتهم في ذلك حدثني ثقة !! ، وأخبرني من لا أتهمه بكذب !! ، وأنبأني صدوق صادق!!!!

والحق أن العدل والإنصاف صفة ملازمة لكل داعٍ مخلص إلى الله تعالى ، لا يتحلى بها إلا كل ذي قلب تقي ، وفؤاد نقي ، وعلم راسخ ، وإخلاص وافر ، والإنصاف مع الخصوم أعلى مرتبة من إنصاف غيرهم ، وقد قال ربنا سبحانه : (…وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا…)[المائدة/2]، وقال تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة/8] .

إن مما يجمع عليه كل قارئ لكتب شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ إنصافه لخصومه ، قد يخالفهم في الرأي ، ويناقضهم فيما ذهبوا إليه ودعوا له ، لكنه مع هذا كله لا ينقصهم حقهم ولا يقول فيهم كلمة تحسب عليه فيما بعد ، بل إنه مع خصومه وأعدائه منصف كل الإنصاف ، عادل كل العدل ، يمدحهم على ما لاقاه من عنت بسببهم ، ويعلي قدرهم على ما عاشه في محنته من جراء صنيعهم .

لقد كان معتقد شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن المناظرات والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف ، ولما رأى ـ رحمه الله ـ أناسـًا تعالت أصواتهم بلعن مخالفيهم ، قال ـ رحمه الله ـ : " ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين مالا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف " .

لقد كان موقف شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ هو التوسط فهو لا يجنح إلى الإفراط ، ولا يميل إلى التفريط ، ولا يتعامل بالنقص والإجحاف ، كما لا يتعامل بالزيادة وعدم الإنصاف ، انظر إلى قوله ـ يرحمه الله ـ : " إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر ، وفجور وطاعة ، ومعصية وسنة وبدعة ، استحق الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بقدر ما فيه من شر " .

خذ مثلاً موقفه ـ رحمه الله ـ من الإمام " الغزالي "صاحب الإحياء ـ رحمه الله ـ فعلى قدر ما خالفه على قدر ما أنصفه وحجة الإسلام الإمام " الغزالي " ـ رحمه الله ـ تضاربت فيه الأقوال قديمـًا وحديثـًا ، فمن رافعه إلى درجة التقديس إلى منزلة لدرجة الفسق والكفران ، واختلف الناس فيه ما بين مُفْرِط وَمُفَرِط ، ومُحب ومُبغض ، ومادح وذام ، فمن قائل : " كاد الإحياء أن يكون قرآنـًا " إلى قائل : " إحياء علوم الطين لا إحياء علوم الدين " و " إحياء علوم الغزالي لا إحياء علوم الدين " .

ولكن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنصف الرجل أيما إنصاف ، فقد مدح شيخ الإسلام " ابن تيمية " ـ رحمه الله ـ حجة الإسلام " الغزالي " ـ رحمه الله ـ في بعض مواقفه ، كرده على الفلاسفة في عدد من المسائل كاحتجاجهم بالتركيب على نفي الصفات ، وشيخ الإسلام يذكر دائمـًا قول الإمام " ابن العربي " في " الغزالي " : " شيخنا أبو حامد دخل بطون الفلاسفة ، ثم أراد أن يخرج فلم يقدر " ، ومن ثم فإن شيخ الإسلام "ابن تيمية " ـ رحمه الله ـ يقرر أن " أبا حامد " ـ رحمه الله ـ يميل إلى الفلسفة ؛ لكن أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية .

وحين ينسب إلى " أبي حامد " الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتفض شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قائلاً :
ولم يكن يتعمد الكذب ؛ فإنه أجل قدرًا من ذلك .

لكن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ لا ينسى أن يذكر ما في " الإحياء " من خير ، ومع هذا يؤكد على ما فيه من زلل ، ومن ذلك قلة بضاعة الإمام " الغزالي " في علم الحديث .

وحين يحاول البعض أن يجعل حياة حجة الإسلام من أولها إلى آخرها دربـًا واحدًا ، ينبري شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ليعلن اشتغال حجة الإسلام بصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، بل إنه ليعلن أنه مات وصحيح البخاري على صدره .

هكذا كان إنصاف " ابن تيمية " ـ رحمه الله ـ ، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه دعاة اليوم ، وحماة الشريعة ، وطلاب العلم ، وهداة الناس ، وخيار الأمة .

إن مما يتصبب له الجبين عرقـًا ، وتموت منه النفس كمدًا ، ويتقطع له القلب حرقة ، أن يتطاول الصغار على الكبار ، أو يتنابر الكبار بالألقاب وكأن الساحة قد خلت من كل شيء ولم يبق للحركة الإسلامية سوى أكل لحومها وقضم عظامها ، ونبش رفاتها .

يقول " سفيان بن حسين " : " كنت عند إياس بن معاوية ،وعنده رجل ، تخوفت إن قمت من عنده أن يقع فيَّ ، قال : " فجلست حتى قام ، فلما ذكرته لإياس قال : فجعل ينظر في وجهي ، فلا يقول لي شيئـًا حتى فرغت " ، فقال لي : " أغزوت الديلم ؟ " ، قلت : " لا " ، قال : " فغزوت السند ؟ " ، قلت : " لا " ، قال : " فغزوت الهند " ؟ ، قلت : " لا " ، قال : " فغزوت الروم ؟ " ، قلت : " لا " ، قال : " فسلم منك الديلم والسند والهند والروم ، وليس يسلم منك أخوك هذا ؟ ، فلم يعد سفيان إلى ذلك " .

ونحن الآن قد سلمت منا اليهود والنصاري وكل مشركي الأرض … ولكن ما سلمت منا أعراض المسلمين .

ولم يكتف البعض بالتطاول على الأحياء ، فقبلوا على أنفسهم أن ينبشوا القبور ، ليخوضوا في سيرة أقوام ربما حطوا رحالهم في الجنة ، وتفيئوا ظلالها ،واستنشقوا ريحها ، وعاينوا قصورها ولذاتها .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة