الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التهور و الاندفاع

التهور و الاندفاع

التهور و الاندفاع

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه . أما بعد:.

فالتأني والحلم والرفق والوقار ومجاهدة النفس دليل رجاحة العقل واتزان النفس وعلي العكس و النقيض فإن التهور و الاندفاع و الطيش والهوي و السفه و العجلة دليل خفة العقل وجهالة النفس ، وقد يظهر ذلك في سرعة الغضب من يسير الأمور، والمبادرة بالطيش، و الإيقاع بالمؤذي، و السرف في العقوبة ، وإظهار الجزع من أدني ضرر، والسب الفاحش، أو استعمال العبد قواه فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي ، والتهور خلق مستقبح من كل أحد إلا أنه من الملوك و الرؤساء أقبح ، وعلى هذا فإذا ترتب على الطيش محرم كان محرماً و إذا ترتب عليه مكروه كان مكروهاً ، وهو على كل حال مستقبح وفي كل وقت مسترذل ، فكم من اندفاعة في غير موضعها أورثت حزناً طويلا ،ً وكم من قول أو فعل متهور طائش أهلك صاحبه وحرمه النجاة وألقي به في عداد الظلمة الفسقة . ومن ذلك إساءة الظن بالمسلمين وعدم التثبت في نقل الأخبار و إشاعة الاتهام في حق الأبرياء دون بينة أوضح من شمس النهار ، قال تعالي : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15).

وفي صحيح مسلم " أن المسيح عليه السلام – رأي رجلاً يسرق فقال : سرقت ، فقال الرجل : والله ما سرقت ، فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت عيني ". ومن ذلك التهور في تكفير المسلمين الذين ورثوا الإسلام و جهلوا معانيه بزعم التحاكم للطاغوت وغير ذلك من شبهات غلاة التكفير ، ومن المعلوم أن الإنسان متي خرج من الملة لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يورث و يفسخ عقده مع امرأته و يفقد ولايته على أولاده .... إلى غير ذلك من الأمور التي تدعو إلى التثبت و السعي في درء الشبهات و إقامة الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها على يد عالم أو ذي سلطان مطاع .

من صور التهور

ومن ذلك التهور في إيقاع الطلاق مع الاستثارة أو وقت الانفعال و الغضب ثم الندم بعد فوات الأوان و تخريب البيوت وتشريد الأولاد ، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون مراعاة الضوابط الشرعية ، فتجد من ينصب نفسه قاضياً وجلاداً ومجنياً عليه في نفس الوقت ، ومن يتصرف كأنه دولة داخل دولة فيقيم الحدود الشرعية بلا ضابط ولا رابط مع كثرة الشبهات وواقع الغربة وانجرار المفاسد الكبيرة من وراء ذلك . والثالث قد يكسر عضوا أو يقبح أو يضرب الوجه بزعم أن الزوجة أو الولد ارتكب كذا أو صنع كذا و كأن الغاية تبرر الوسيلة ، والرابع قد يهدم قبراً مشرفاً ويعاد بناؤه في نفس اليوم وينسب من فعل ذلك لانتهاك حرمة الموتى ، ويتعدى الأذى إلى الأبرياء من الأهل والإخوان و الأصدقاء ، وقد تستثمر هذه السلوكيات في التنفير من الدعوة وفي الصد عن سبيل الله ، وبالجملة فصور التهور والاندفاع كثيرة ومن شانها أن تستجلب المضرة والمفسدة وتفوت المصلحة ، وفي الحديث : " إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ، ما لا يعطي على الخرق ، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق ، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا ". (رواه الطبراني). وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " التأني من الله والعجلة من الشيطان ، وما أحد اكثر معاذير من الله ".( رواه البيهقي، و حسنه الألباني) ، وورد في الحديث: " يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ( صغار ) سفهاء الأحلام ( ضعفاء العقول ) يقولون من قول خير البرية ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ". ( رواه البخاري) . وقد ظهر الخوارج بهذه الصفات وقاتلهم علي رضي الله عنه .

السلف يحذرون من التهور:

و لما اشتكى بعض الرعية من عمال عمر ، فأمرهم أن يوافوه ، فلما أتوه قام ، فحمد الله و أثنى عليه ، قال : " أيها الناس ، أيتها الرعية ، إن لنا عليكم حقاً ، النصيحة بالغيب و المعاونة على الخير ، أيها الرعاة إن للرعية عليكم حقا فاعلموا أنه لا شئ أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام و رفقه ، و ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام و خرقه ".

و قال أبو منصور : "الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة ". و قال : " التأني مع الخيبة خير من التهور مع النجاح " .و قال " السباب مظنة الجهل و مطية الذنوب ".

فالتهور والاندفاع قريب من الشباب و صغر السن وبسبب الجهل الملازم لهذه المرحلة في الأعم الأغلب ، و لذلك قالوا : تفقهوا قبل أن ترأسوا ، و قالوا : تفقهوا قبل أن تسودوا، و كان ابن مسعود – رضي الله عنه – يقول لأهل زمانه : "أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمر ، و سيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف المتثبت لكثرة الشبهات ". فالإنسان طبعه العجلة " : ( وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً) (الإسراء: من الآية11) . فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير، و يؤثر العاجل و إن قل على الآجل و إن جل ، و قد يفعل الشيء قبل وقته اللائق ، و لذلك ذمت العجلة التي هي من مقتضيات الشهوة في جميع القرآن حتى قيل : العجلة من الشيطان ، بعكس ما كان في طلب الآخرة فهو محمود ، قال تعالى عن نبيه موسى: ( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طـه: من الآية84). و قال عمر بن الخطاب : "التروي في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة ". و قد عد الحافظ ابن حجرالعجلة و ترك التثبت في الأمور من الكبائر و جاء في الحديث " العجلة من الشيطان " لأن عندها يروج شره على الإنسان من حيث لا يشعر بخلاف من تمهل و تروى عند الإقدام على عمل يريده فإنه تحصل له بصيرة به و متى لم تحصل تلك البصيرة فلا ينبغي الاستعجال بل حتى فيما يتعلق بالصالحات فالعجلة تفوت قدراً من الأجر و الثواب ، و لذلك قالوا : رحم الله عبداً وقف مع أول همه فإن كان لله أمضاه و إن كان لغيره توقف ، و العجلة دليل على عدم تقدير الأمور و الجهل بحقائقها ، يوضح ذلك قوله تعالى: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ). (الشعراء:204).وقوله : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (العنكبوت:54). وقوله : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل:1)

. و عن أبى هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي ". ( رواه البخاري و مسلم) و في حديث أم زرع قالت الثالثة : " زوجي العشنق ( طول بلا نفع ) إن أنطق أطلق ( إن ذكرت عيوبه طلقها لطيشه ) و إن أسكت أعلق ( تركها لا عزباء ولا مزوجة ) ..." الحديث، (رواه البخاري و مسلم). وقال الحسن بن علي – رضي الله عنهما - : اعلموا أن الحلم زينة ،والوفاء مروءة ، والعجلة سفه ، و السفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، و مخالطة أهل الفسق ريبة ". و قالوا : لا يستحق أحد اسم الرئاسة حتى يكون فيه ثلاثة أشياء : العقل و العلم و المنطق، ثم يتعرى عن ستة أشياء : عن الحدة و العجلة و الحسد و الهوى والكذب و ترك المشورة . و عاب مالك العجلة في الأمور و قال : قرأ ابن عمر البقرة في ثمان سنين ( بمعنى أنه جمع فيها العلم و العمل معاً كما هو منهج الصحابة رضي الله عنهم ) و قال أيضاً : العجلة نوع من الجهل . و قال أبو حاتم : العجلة تكون من الحدة ، و صاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محموداً ، و إن أخطأها كان مذموماً ، و العَجِل لا يسير إلا مناكباً للقصد ، منحرفاً عن الجادة ، يلتمس ما هو أنكد وأوعر وأخفى مساراً ، يحكم حكم الورهاء ( الحمق ) يناسب أخلاق النساء ، وإن العجلة موكل بها الندم ، و ما عجل أحد إلا اكتسب ندامة واستفاد مذمة ؛ لأن الزلل مع العجل ، ولا يكون المذموم محموداً أبداً . و في وصية الخطاب ابن المعلى المخزومي القرشي لابنه قال فيها : يا بني عليك بتقوى الله و طاعته و تجنب محارمه باتباع سنته و معالمه حتى تصحح عيوبك ، و تقر عينك ، فإنها لا تخفى على الله خافية ، و إني قد وسمت لك وسماً ، إن أنت حفظته ووعيته وعملت به ملأت عين الملوك و انقاد لك به الصعلوك و لم تزل مرتجى مشرفاً يحتاج إليك ، و يرغب إلى ما في يديك ... إلى أن قال : والعجلة شؤم و سوء التدبير وهن.

فالحذر الحذر من التهور و الاندفاع فهو دليل على السفه و ضعف العقل ، و يتسبب في كثرة الزلل و الوقوع في الخطأ ، و صاحبه محروم من السيادة و مواقع القيادة والريادة ، يجلب لنفسه الضرر ، و يوقعها في مواضع الندم ، حيث لا ينفع الندم ، فلابد من وقفة تريث و تمهل و تثبت لنكون على بصيرة من أمرنا و أمر الناس حتى تُستوضح مواضع الأقدام و تحمد العاقبة .

و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة