الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اتهمت صديقتي بشيء ثم تبين لي براءتها، فكيف أصلح ما بيني وبينها؟

السؤال

السلام عليكم.

منذ عدة أشهر حصلت بيني وبين بعض الأشخاص مشكلة في المدرسة، وفي ذلك الوقت كنتُ شديدة الغضب، وأحد هؤلاء الأشخاص قال لي شيئًا أزعجني كثيرًا، لكنني التزمت الصمت، ولم أرد عليه، إلا أن صديقتي قامت بالشكوى إلى الإدارة، فاستُدعينا جميعًا، وجلسنا لنتناقش في الأمر حينها، قلت إن "فلانة" قالت لي كذا وكذا، لكنني اكتشفت لاحقًا أن شخصًا آخر هو من قال تلك العبارة، وليس هي، لذلك ذهبت إليها، واعتذرت، لأنني كنت أظن أنها هي من قالت ذلك، فهل يُعدّ ما فعلته ظلمًا؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Sara حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أشكرك على مشاركتك ما في قلبك، وأقدّر شجاعتك في الحديث عن موقف ربما كان مؤلمًا أو مربكًا بالنسبة لك، وهذا يدل على صدقك مع نفسك، وإحساسك بالمسؤولية تجاه الآخرين، وأريد أن أطمئنك: أن ما تشعرين به من تساؤل وقلق، يعكس ضميرًا حيًا، ونيةً صادقةً لإصلاح الأمور، وهذا في حد ذاته نعمة من الله سبحانه وتعالى.

دعينا نبدأ أولًا بفهم الموقف الذي مررتِ به: عندما يكون الإنسان في حالة غضب، قد يكون من الصعب عليه أن يرى الأمور بوضوح، أو يتأكد من التفاصيل، الغضب شعور طبيعي، وجزء من التجربة الإنسانية، لكنه قد يسبب أحيانًا أخطاء في الحكم، أو التصرف، كما حدث في حالتك عندما اعتقدتِ أن صديقتك قالت شيئًا يزعجك، ولكن في المقابل يُظهر تصرفك لاحقًا -عندما أدركتِ الخطأ، واعتذرتِ لها- نضجًا كبيرًا، وشجاعةً أخلاقيةً، فهل يُعد ما قمتِ به ظلمًا؟

في الإسلام الظلم يُعرّف بأنه: وضع الشيء في غير موضعه، سواءً كان ذلك في حق النفس، أو الآخرين، وفي حالتك كان ما حدث خطأ غير مقصود ناتج عن سوء فهم، ولم يكن لديك نيةً سيئةً تجاه صديقتك، قال الله تعالى في كتابه الكريم: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (سورة البقرة: 286)، وهذا يشمل الأخطاء التي نقع فيها عن غير قصد، ومع ذلك فإن اعتذارك لصديقتك، وتصحيحك للموقف يعبر عن رغبتك في تدارك أي أثر سلبي قد تسببت فيه، وهذا أمر عظيم عند الله عز وجل.

ولا ننسى حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (رواه الترمذي)، فالخطأ ليس هو المشكلة بحد ذاتها، بل المهم هو كيف نتعامل معه، وأنتِ قد قمتِ بما هو واجب عليكِ، وهو الاعتذار، وهذا يعكس صدق نيتك، وحرصك على العدل والإحسان.

الغضب أحيانًا يجعلنا نتصرف بطريقة قد نندم عليها لاحقًا، ولذا في ديننا نجد العديد من التوجيهات للتعامل مع الغضب وضبطه؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (رواه البخاري ومسلم)؛ فإذا شعرتِ بالغضب في المستقبل، فحاولي اتباع هذه النصائح النبوية:

• إذا كنتِ واقفةً فاجلسي، وإذا كنتِ جالسةً فاستلقي.
• استعيني بالله واستعيذي من الشيطان، وقولي "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
• خذي نفسًا عميقًا، وامنحي نفسك بعض الوقت قبل الرد أو التصرف.
• توضئي؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلق من نار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" (رواه أبو داود).

ما قمتِ به من اعتذار وتصحيح للموقف يعكس قيمًا نبيلةً حثّ عليها الإسلام، قال الله تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ" (سورة الأنفال: 1)، الإصلاح بين الناس من أعظم الأعمال عند الله، واعتذارك لصديقتك هو جزء من هذا الإصلاح، ومع ذلك إذا كنتِ ما زلتِ تشعرين بالذنب أو القلق، فيمكنك أن تواصلي تحسين العلاقة معها من خلال الكلمة الطيبة، أو الدعاء لها بظهر الغيب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة" (رواه مسلم).

مثل هذه المواقف قد تكون فرصةً لتقوية العلاقات بدلًا من أن تكون سببًا في تدميرها، والصداقة الحقيقية تُبنى على التسامح والتفاهم، فحاولي أن توضحي لصديقتك أنكِ لم تقصدي إيذاءها، وأظهري لها تقديرك لعلاقتكما؛ يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-:
إذا المرء لا يلقاك إلّا تكلّفًا ... فدعْه ولا تُكثرْ عليه التأسّفا

فالصداقات التي تقوم على الصدق والتفاهم هي التي تستمر وتزدهر، وعندما نمر بمواقف مثل هذه، فإنها تمنحنا فرصةً للنمو الشخصي والروحي، ويمكنك التفكير في الأمور التي تعلمتها من هذه التجربة، مثل: أهمية التحقق من المعلومات قبل التصرف أو الكلام، وكيفية التعامل مع الغضب بطرق صحية، وتذكري أن كل إنسان يخطئ، لكن العبرة في التعلم من الأخطاء، قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ" (سورة آل عمران: 135)، فإذا شعرتِ بأنكِ قد ظلمتِ أحدًا، فاستغفري الله، واطلبي منه العفو؛ فالله رحيم بعباده.

لا تجلدي ذاتك كثيرًا بسبب هذا الموقف؛ أنتِ إنسانة تسعين للخير، وتحرصين على إصلاح ما قد تظنين أنه خطأ، وهذا بحد ذاته دليل على صفاء نفسك، فاستمري في تحسين علاقتك بالله من خلال الدعاء والصلاة، وحافظي على علاقاتك الاجتماعية من خلال التسامح وحسن الظن بالآخرين.

وأخيرًا: إذا شعرتِ بأن القلق أو الشعور بالذنب يؤثران على حياتك اليومية، فلا تترددي في طلب المشورة من شخص تثقين به؛ قال الله تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" (سورة آل عمران: 159)، والمشاورة وسيلة للتخفيف عن النفس، والوصول إلى الحكمة.

أسأل الله أن يرزقكِ السكينة والطمأنينة، وأن يوفقكِ لما يحب ويرضى، وتذكري دائمًا أنكِ في رحلة تعلم ونمو، وما دمتِ تسعين للخير، فإن الله معك.

والله ولي التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً