الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مشكلتي التسويف وعدم الإنجاز رغم أني أبدأ بحماس وقوة!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري، وبفضل الله وتوفيقه أتممت حفظ كتاب الله تعالى كاملاً، وأعيش الآن مرحلة المراجعة والعرض القرآني.

أمتلك طموحًا كبيرًا، وأسعى دومًا لتطوير ذاتي، واستثمار وقتي فيما ينفعني، فأنا لا أحتمل الشعور بالفراغ أو الملل؛ لذلك أحرص على المشاركة في المسابقات، والبرامج التدريبية، والدورات الإلكترونية، وغيرها من الأنشطة التي تُغذي طموحي، وتُشحذ من همّتي، وتَدفعني للمضي قُدمًا بثبات وعزيمة.

لكن هنا تبدأ المشكلة الحقيقية، وهي مشكلة التسويف وعدم الإنجاز؛ إذ أبدأ غالبًا بحماس كبير، وأُقبل على المهام بقوة وانضباط، لكن ما إن تمضي أيام قليلة حتى يتغير حالي فجأة، فأشعر بالضيق والملل، وقد يتفاقم الأمر حتى أصل إلى حالة من الحزن، والنفور من كل شيء، بل أحيانًا يصل بي الحال إلى كراهية المحيطين بي، حتى أفراد عائلتي!

والمحير في الأمر أن هذه المشاعر لا تسبقها مقدمات واضحة، بل أكون في حالة جيدة، وكل شيء يسير على ما يرام، دون ما يعكر صفوي أو يبرر هذا الانقلاب المفاجئ في المزاج.

كثيرًا ما أشعر بأن شيئًا ما يشدّني إلى التراجع، كأن قوة خفية تسحبني بعيدًا عمّا بدأتُه بحماس، حتى أكاد أعجز عن فهم تصرفاتي أو تفسير ما أمرّ به، ويتراجع أدائي، وتخبو همّتي، وأفقد الحافز والعزيمة، بل حتى الهدف الذي يدفعني للاستمرار يصبح باهتًا أو معدومًا.

وهذه الحالة تتكرر في كل تجربة أو مهمة أبدأ بها؛ أنطلق بقوة في البداية، ثم أستمر بوتيرة جيدة، لكن سرعان ما أتراجع تدريجيًا، إما بالانسحاب التام، أو بالوصول إلى نتيجة مخيّبة، وهذا التكرار المستمر يصيبني بالإحباط، ويُشعرني بالحزن، فأحاول من جديد، لكنني أعود لأقع في الدائرة ذاتها.

وأنا الآن في مرحلة العرض، وأدرك تمامًا حاجتي إلى الهمة والثبات في ممارسة رياضة اللسان، ومراجعة القرآن الكريم، ولكن يخيفني احتمال التراجع والتأخر عن المسار المطلوب، وبدأت أشعر بانزعاج وضيقة من المقرأة والقرآن، وقلت تدريباتي على رياضة اللسان؛ مما أثر سلبًا على مزاجي وصفاء تفكيري.

فأرجو منكم نصحًا وفيرًا، كيف أستطيع الخروج من هذه الحالة؟ وكيف أحقق الإنجاز وأواصل السير في الطريق الصحيح حتى في أوقات الضعف والضيق؟ كم من المذكرات والتخطيطات والجداول التي أعددتها لم تثمر عن نتائج بسبب هذه المعاناة المتكررة!

بارك الله فيكم ووفقكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ جُمانة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختنا الفاضلة- في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكِ إلى صالح القول والعمل، وأن يثبتك على هذه الهمة العالية، ويرزقك الرفعة في الدنيا والآخرة.

نهنئك في البداية على شرف حفظ كتاب الله العظيم، ونسأل الله أن يكرمك بالعمل بما فيه، والتأدب بآدابه وأخلاقه، وأن يجعلك قرة عين لوالديك.

أختنا الكريمة: كان وصفك لحالتك النفسية دقيقًا؛ مما يدل على وعيك وذكائك، فالحالة التي تمرين بها تُعرف بدورة الحماس والانطفاء، وهي ظاهرة شائعة لدى أصحاب الهمم العالية والطموحات الكبيرة، وهي دورة طبيعية، خصوصًا في المراحل العمرية المبكرة، حيث يمتزج الحماس بالتخطيط، والرغبة في السيطرة وتحقيق الإنجاز.

لكن سرعان ما يعقب ذلك فتور مفاجئ في الطاقة والمشاعر، يصاحبه ملل وضيق وتشوش، وقد ينتهي الأمر إلى التراجع أو الانسحاب، وكأن الهدف فقد معناه، وغالبًا ما تترافق هذه المرحلة مع تأنيب للنفس، وشعور بالإحباط وضعف في العزيمة، مع رغبة قوية في العودة والمحاولة من جديد، لكن ضمن نفس الدائرة، دون الوصول إلى حل جذري.

لذا: من المهم جدًّا في هذا العمر أن تكوني على وعي بالتغيرات والصعوبات النفسية التي قد تعترض طريقك، فهي من مفاتيح النجاح والاستمرار، وقد قال رسول الله ﷺ: «عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمره كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له» [رواه مسلم]، فهذا الوعي سيساعدك على سدّ الثغرات، وتجاوز التحديات في رحلتك نحو تحقيق طموحاتك.

وفيما يلي نضع بين يديك مجموعة من المفاتيح؛ لفهم أسباب هذه الحالة وكيفية التعامل معها وعلاجها، مع التأكيد على أهمية الاجتهاد في التطبيق.

أولًا: ما السبب الجذري لهذه الحالة؟
الإنسان بطبيعته متقلب ومتغير، ولا يمكن أن يظل على وتيرة واحدة من النشاط والهمة، ومن الطبيعي أن تتأثر النفس بتقلبات الحياة، قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} [الشرح: 7]، أي إذا أنهيت عملًا، فابدأ بآخر، ولا تركن إلى الفراغ أو الكسل؛ مما يدل على أهمية التنويع والاستمرارية.

ثانيًا: توجيه النبي ﷺ في التعامل مع هذه الحالة:
قال النبي ﷺ: «لكلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولكل شِرَّةٍ فَترة، فمن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك»، والمقصود أن لكل عمل نشاطًا واندفاعًا، يعقبه فتور طبيعي، لكن الفائز من يجعل فتوره داخل دائرة الخير، لا خارجها.

ثالثًا: كيف يكون العلاج؟
العلاج يكمن في أن نجعل لحظات الفتور موجهة نحو خير لا ينقطع، كمن يترك النوافل مؤقتًا، لكنه يحافظ على الفرائض، فلا تكوني قاسية على نفسك، ولا تطلقي عليها أحكامًا قاسية، بل انظري لما تمرين به بوصفه جزءًا من طبيعة النفس والواقع.

من أسباب المشكلة:
1. ارتفاع سقف التوقعات:
عند اشتعال الحماس، يندفع الإنسان بطاقته القصوى، فيرفع طموحاته فوق طاقته دون مراعاة لإمكاناته وظروفه، فيبدأ بالتراجع والانهيار عند أول عقبة، وقد حذر النبي ﷺ من هذا، ففي قصة الثلاثة الذين غلوا في العبادة، قال ﷺ: «أَمَا والله إِني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

2. الاندفاع دون تدرّج:
الشباب غالبًا ينجرفون خلف الحماسة دون تمهّل أو تخطيط، فيُهملون مراحل التدرج، ويغفلون أن النفس تحتاج إلى وقت لتنضج وتتعلم، قال النبي ﷺ: «أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.

3. الفراغ العاطفي وضعف تقدير الذات:
• الطموح يحتاج إلى بيئة داعمة، وإنجازات تُرى وتُشعر صاحبها بثمرتها، فحين تغيب هذه العناصر، يشعر الإنسان بالوحدة، ويقلّ تقديره لذاته.

• ركّزي على الإنجازات الصغيرة، واحتفي بها؛ فهي لبنات عظيمة في طريق النجاح: كصلاة الفجر، وقيام الليل، وصيام النوافل، والدعوة إلى الله.

خطوات عملية لتجاوز هذه العوائق:
1. الرحمة بالنفس وتحقيق التوازن:
• التنويع في الأنشطة، والترويح عن النفس، وبناء علاقات اجتماعية، ليست ترفًا، بل ضرورة للحفاظ على التوازن النفسي.

2. ربط الأهداف بالله لا بالنتائج:
• اجعلي رضا الله هو الغاية، لا مجرد الإنجاز أو الاعتراف من الآخرين. فمن أرضى الله، رضي الله عنه، وسخّر له الأسباب.

3. الاستمتاع بالطريق:
• السعادة ليست فقط في بلوغ الهدف، بل في الرحلة نحوه، قدّري لحظات التعلم والتجارب التي تمرين بها، فهي جزء من الإنجاز.

4. لا تسيري وحدك:
• اختاري رفيقة صالحة، تشاركك الطموح، وتعينك على الثبات، فالصاحب ساحب، و"المؤمن مرآة أخيه".

5. العيش مع سير العظماء:
• اقرئي في سير الأنبياء، والعلماء، والصالحين؛ ففيها زاد عظيم من الصبر، والهمة، والتوازن، والثقة بالله.

وأخيرًا:
• ما تمرِّين به ليس ضعفًا في الدين، بل هو جزء من خصائص هذه المرحلة العمرية، التي تتشكل فيها الشخصية وتُختبر فيها الإرادة.
• لا تنسي أن التغيرات الهرمونية في هذا السن تلعب دورًا كبيرًا في تقلب المزاج والنفسية.
• أنتِ صاحبة إنجاز عظيم، فلا تستهيني بنفسك ولا بجهدك.
• حفظك لكتاب الله نعمة عظيمة، وما تمرين به ليس إلَّا امتحانًا لتزكية روحك، وصقل إرادتك.
• ثابري، واصبري، وكوني رفيقة بنفسك، متوازنة في سعيك، مستعينة بالله، مُكثرة من الدعاء والتضرّع، وأبشري، فإن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملًا.

نسأل الله أن يوفقك، ويثبتك، ويرزقك القبول والرفعة في الدنيا والآخرة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً