الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اتفقنا على الطلاق ومشكلتي تعلقي الشديد بأولادي!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا رجل متزوج سابقًا، ولدي طفلان، كنتُ أعيش وأعمل في مدينتي، لكن شاء الله بسبب وطأة الظروف أن أنتقل مع زوجتي إلى مدينتها، التي تبعد حوالي 600 كيلومتر عن مدينتي الأصلية، واضطررت حينها لتغيير مقر عملي، واستئجار منزل جديد.

استمرت الحياة على هذا النحو ثلاث سنوات، لكن العلاقة الزوجية ساءت بشكل متفاقم، وانعدمت الحلول، فاتفقتُ مع زوجتي على الطلاق بالتراضي.

تكمن مشكلتي الكبرى الآن فيما بعد الطلاق؛ فأنا شديد التعلّق بأطفالي، وهم كذلك متعلقون بي كثيرًا.

أما الإجراء الطبيعي المتوقع بعد الطلاق، فهو أن أعود إلى مدينتي، حيث يوجد سكني الخاص، ومقر عملي الأصلي، وأهلي جميعًا، لكن هذا الخيار يعني أنني سأكون بعيدًا جدًّا عن أطفالي، وهو أمر يؤلمني بشدة.

ويبقى أمامي الخيار الثاني، وهو أن أبقى في مدينة طليقتي لأكون قريبًا من أطفالي، لكن هذا الخيار محفوف بالصعوبات؛ إذ من العسير أن أغيّر مقر عملي، لأني طوال السنوات الثلاث التي قضيتها هناك كنت أعمل بوضع "تحت تصرف مؤقت" في الإدارة، ولم أنجح في الحصول على تحويلٍ نهائي، رغم الوعود المتكررة من جهة العمل.

أنا الآن في حيرة من أمري:
هل أعود إلى مدينتي حيث الأمان الوظيفي والاستقرار، ويظل قلبي يشتعل شوقًا إلى أطفالي، أم أبقى قريبًا منهم، مع المجهول الذي ينتظرني في ما يتعلّق بالعمل والسكن؟

شكرًا لكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ معاذ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أيها الأخ الفاضل- في الموقع، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُلهمك السداد والرشاد، وأن يُؤلِّف القلوب، وأن يغفر الزلّات والذنوب.

إن التراضي الذي وصلتم عن طريقه إلى الطلاق، ينبغي أن يصحبه خطة متفق عليها على مصير الأولاد، وتربيتهم، ومكان وجودهم؛ لأن الطلاق لا يصلح حلًّا إلَّا إذا كان ناجحًا، ولن يكون الطلاق ناجحًا إلّا إذا وُضع في موضعه الصحيح، وبعد استنفاد بقية الحلول، واتضحت بعده معالم الحياة الخاصة بالأبناء، فإن الطلاق يُنهي الحياة الزوجية، لكن تبقى الوالديّة، يبقى الأبناء بحاجة إلى أمهم، وبحاجة إلى أبيهم أيضاً.

والأمر كما قالت الصحابية: "إن ضممتهم إليَّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا"، وهي معادلة ينبغي أن يستصحبها الإنسان، ولذلك الشريعة تسهِّل الزواج وتُصعِّب الطلاق، وتريد لمن فكّر فيه ألف مرة أن يفكّر مرات بعد الألف.

لذلك قبل أن ندرس ونجيب ونقول الرأي، لا بد أن نتأكد من قدرة هذه الأم على تربية هؤلاء الصغار، والاتفاق على مصيرهم ومستقبلهم، وربط ذلك بالجانب الشرعي: الأعمار التي يكونون فيها مع الأم، والأعمار التي ينبغي أن ينتقلوا فيها إلى الأب، وما فيه مصلحة للأبناء من الناحية الدينية، وكذلك أيضًا قدرة الأم على القيام بتربيتهم؛ هذه كلها أمور ينبغي أن تكون واضحة قبل أن نجيب على هذا السؤال.

وأعتقد أنكم لو فكرتم بهذه الطريقة الشاملة، سيتغير الكثير، وستُحلّ كثير من الإشكالات، بل ربما تعودون إلى صرف النظر عن مسألة الطلاق؛ لأن الحياة الزوجية لا تخلو من المشاكل، ولو أن كل إنسان واجه صعوبات لجأ إلى الطلاق، لما بقيت معظم البيوت.

والأصل في هذه المسألة أن يصبر الزوج وأن تصبر الزوجة، قال العظيم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف}، ثم قال: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

وقال الحافظ ابن كثير: الرجل يصبر على المرأة، والمرأة تصبر عليه، ليكون لهم الولد الذي يكون سببًا لسعادتهما ودخولهما الجنة، فهؤلاء الصغار الأبناء شفعاء لنا وامتداد لعمل صالح بعد أن ندخل قبورنا.

ولذلك أرجو أن تنظر للموضوع نظرة شاملة، تنظر إلى مستقبلهم، وتنظر إلى مستقبلك أيضًا من ناحية العمل، فإن الأبناء بحاجة إلى أب قادر على الإنفاق عليهم ورعايتهم، وطبعًا في هذه الأحوال أيضًا أنت بحاجة إلى أن تستشير أهل الخبرة، وتستخير الذي يعلم السر وأخفى، فالاستخارة هي طلب الدلالة إلى الخير ممّن بيده الخير.

فنسأل الله أن يعينك على اختيار ما فيه المصلحة ثم يرضيك بهذا الاختيار، ونتمنى أن تنظر للزوايا والنقاط التي أشرنا إليها: مصلحة الأبناء الدينية، وقدرة الأم على رعايتهم، وإمكانية وجودهم معك، وإمكانية التواصل معهم من حين إلى آخر، زيارتهم والإشراف عليهم، مسألة العمل، أين وجود المصلحة؟ كيف ستفكر في حياتك الجديدة؟ هل نظرت الزوجة إلى مستقبلها، ومستقبل أبنائها؟

هذه أمور ينبغي أن تُؤخذ في الاعتبار، فإذا كان الطلاق بالتراضي، فينبغي أن تكون أمور الأولاد أيضًا بالتراضي، بخطة متفق عليها، وهنا تكتمل عناصر النجاح لتبقى الوالديّة، ومسؤولية: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤولةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) [متفق عليه].

نتمنى أن تصل إلى الحل المناسب، ولا مانع عندنا من أن تكتب إلينا بالنقاط التي أشرنا إليها؛ لأن القرار الصحيح هو الذي ينظر فيه إلى مآلات الأمور وعواقبها ونتائجها، ويستعين فيه الإنسان -كما قلنا- بمشاورة العقلاء بعد صلاة الاستخارة التي كان النبي ﷺ يُعلِّمها لأصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن، وهذا دليل على أهميتها.

نسأل الله أن يُقدّر لك الخير ثم يرضيك به.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً